اقتضاء العلل متناه أيضا ، فلا بد من وجود مدة غير منقطعة ، وأدوار غير متصرمة ليحصل بحسب الأدوار والحركات واستعدادات القوابل المتعاقبات ، نفوس ناطقة قرنا بعد قرن ونسلا بعد نسل ، ليتم الأزل بالأبد ويكمل البداية بالنهاية ، ولا يصير نعمة الله بتراء ، ولا جوده منقطعا وفضله معطلا. ولذلك قال : (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) وقال : (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) وقال : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً).
فإذا تقرر هذا ، فالقضاء كما أشير إليه عبارة عن وجود جميع الموجودات في العالم العقلي ، مجتمعة بعد وجودها في العناية الإلهية مجملة ومحلها القلم. والقدر عبارة عن وجوده التفصيلي في كتاب المحو والإثبات وفي مواد الخارجية الجارية بسواد مداد الهيولى الظلماني ، كما جاء في التنزيل (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) إشارة إلى وجودها على النحو البسيط في العناية الإلهية. وقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) إشارة إلى وجودها في الخزائن العقلية على سبيل الانحفاظ دائما. وقوله : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) إشارة إلى المرتبتين الأخيرتين القدريتين ، فالمتنزل هو القدر الخارجي ، لكونه آخر التنزلات ، والمتقدر المعلوم هو القدر العلمي ، وهو سبب للقدر الخارجي ، كما دلت عليه باء السببية ، فالجواهر العقلية وما معها موجودة في القضاء والقدر مرة واحدة باعتبارين ، والجواهر الجسمانية وما معها موجودة فيهما مرتين. فظهر مما ذكرنا أن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء الكلية والجزئية ، لأن كل شيء من لوازم ذاته بوسط أو بغير وسط ، يتأدى إليه بعينه قضاؤه وقدره الذي هو تفصيل قضائه تأديا واجبا ، إذ كل ما لم يجب وجوده أولا لم يوجد أخيرا ، فالعناية الإلهية هي إحاطة علمه البسيط الذي هو نفس وجوده بالكل ، وبالواجب أن يكون عليه الكل ، حتى يكون على غاية الجودة والنظام ، وأبلغ الكمال والتمام وأحسنه ، وبأن ذلك واجب عنه تعالى وعن إحاطة علمه به ، ليكون الموجود على وفق المعلوم على أكمل الوجوه في النظام ، فعلمه سبحانه بكيفية الخير والصواب في ترتيب وجود عالمي الغيب والشهادة هو منبع لفيضان الكل.