تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) وهي متصلة بالحق الأول اتصال الشعاع بالشمس ، ولهذا أضيفت إليه تعالى بقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) وإنما وصفت بأنها تامات ، إذ جميع ما لها من الكمال هو بالفعل ، ليس فيها شوب قوة استعدادية ولا كمال ينتظر ولا أحوال مترقبة الحصول. وقد يعبر عنها بعالم الأمر كما يعبر عن الأجسام وما معها بعالم الخلق ، قال تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فجميع ما في عالم الأجسام إنما يصدر عن المبدإ الأعلى بواسطته. وقد يعبر عنها بقوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقال : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) والأسماء متكثرة والمسمى واحد باعتبار حيثيات مختلفة ، فمن حيث يقع بها إعلام الحقائق من الله ، يقال لها الكلمات ، ومن حيث يجب بها وجود الكائنات كل في وقته ، يقال أمر الله وقضاؤه الحتمي ، ومن حيث يكون بها حياة الموجودات يقال لها روح (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وهي في ذاتها واحدة (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) وإنما يتعدد ، بتعدد أنواع الآثار (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أو باعتبار جهات فيضانها على الأشياء ، أو باعتبار تعلقاتها بها ، فيتكثر بتكثرها ، كالوجود حقيقة واحدة تتكثر بتكثر الماهيات ، لا بأن يكون للماهيات تأثير في الوجود ، بل باعتبار اتحاد الماهية بالوجود. وبالجملة كلمات الله أمر موجود روحاني مؤيد للأنبياء بالوحي ، قال الله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وملهم للأولياء بالكرامة ، ومحيي لقلوب السالكين من المؤمنين بالإيمان ، وأيدهم بروح منه ، وهو والد لنفوس المكرمين ، (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) وهذا هو الروح العلوي الذي قيل : إنه لم يقع تحت ذل كن ، لأنه نفس كلمة كن ، وهو بعينه نفس الأمر ، لأنه أمر الله الذي به يوجد الأشياء ، ولا شبهة في أن قول الحق وكلامه فوق الأكوان وأعلى منها ، إذ بها يقع الفعل والتأثير والتكوين. فكيف يقع تحت الكون وقال : (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا).