«أول ما خلق الله العقل» وهذا العقل له وجه إلى الحق ، لأنه يجب به وجوده ، ووجه إلى ذاته ، لأنه هوية صادرة عن الحق الأول مغايرة له ، فلا بد له من أن يتضمن معنى النقص والإمكان ، وإلا لم يكن بين المفيض والمفاض عليه فرق ، فلتضمنه جهة الخير والوجوب يصدر بواسطته عقل آخر دونه في الرتبة ، ولتضمنه معنى النقص والإمكان ، يصدر منه جوهر جسماني فيه الإمكان الاستعدادي ، وهو أول الأفلاك وأعلاها ، وهكذا صدر عن كل عقل بحسب جهتيه جوهر قدسي وجرم سماوي ، الأشرف من الأشرف ، والأخس من الأخس ، حتى استوفى عدد الكرات إلى فلك القمر ، وعدد العقول إلى عقل أخير. والحق أنها متكثرة جدا حسب تكثر الأنواع الطبيعية ، حتى يكون لكل كرة سماوية أو كوكبية ولكل نوع من الطبائع النوعية البسيطة كالنار والهواء والماء والأرض ، والمركبة كأنواع المعادن والنباتات والحيوانات ، عقل فعال ذو عناية وتدبير وحفظ لأفراد ذلك النوع.
ففي عالم الأرواح العقلية كثرة وافرة خارجة عن إحصائنا وضبطنا لا يعلم عددها إلا الله كما قال : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) وإليها الإشارة بقوله تعالى (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) ... (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) وقوله (السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ ...) وقوله : (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) فللحق الأول أيد عمالة فعالة لا بجوارح جسمانية ، بل ذوات نورية هي وسائط جوده وجهات فاعليته ، وإفاضته على الأشياء وهي كأنها في طريق الإيجاد مباد فعالة لهذه الأنواع ، فهي كما أنها مباد لوجود طبائع الأشياء وحركاتها ، كذلك هي غايات لوجود هذه الطبائع واستكمالاتها ، بها يتم ذواتها ويكمل وجوداتها ، ولأجلها يفعل آثار حركاتها واستحالاتها ، وبها يتم النظام ويكمل الخلق ، وللتشوق إليها يدور الأفلاك ويتواجد الأملاك ليلا ونهارا ، سرا وجهارا ، وبسبب ذلك تعمر الدنيا ويدوم الحرث والنسل (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) إشارة إلى النظام المحكم والقوام الأتم الأدوم ، ولأجل وجود هذه المقومات العقلية للأنواع الطبيعية كلها قال : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) وإليها الإشارة بقوله : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) وذلك لأن