نريه المحجة ، فساق الإلزام على أصحاب الهياكل مساق الموافقة في المبدأ ، والمخالفة في النهاية ، ليكون الإلزام أبلغ ، والإفحام أقوى. وإلا فإبراهيم الخليل عليهالسلام لم يكن في قوله : (هذا رَبِّي) (١) مشركا ، كما لم يكن في قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) (٢) كاذبا. وسوق الكلام من جهة الإلزام غير سوقه على جهة الالتزام ، فلما أظهر الحجة ، وبين المحجة ، وقرر الحنيفية التي هي الملة الكبرى ، والشريعة العظمى ، وذلك هو الدين القيم.
وكان الأنبياء من أولاده كلهم يقررون الحنيفيّة ، وبالخصوص صاحب شرعنا محمد صلوات الله عليه ، كان في تقريرها قد بلغ النهاية القصوى ، وأصاب المرمى وأصمى (٣). ومن العجب أن التوحيد من أخص أركان الحنيفية ، ولهذا يقترن نفي الشرك بكل موضع ذكر الحنيفية : (حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٤) ، (حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)(٥).
ثم إن التثنية اختصت بالمجوس حتى أثبتوا أصلين اثنين ، مدبّرين قديمين ، يقتسمان الخير والشر ، والنفع والضر ، والصلاح والفساد ، يسمون أحدهما : النور والآخر الظلمة. وبالفارسية : يزدان ، وأهرمن ، ولهم في ذلك تفصيل مذهب.
ومسائل المجوس كلها تدور على قاعدتين اثنتين :
إحداهما : بيان سبب امتزاج النور بالظلمة.
والثانية : بيان سبب خلاص النور من الظلمة ، وجعلوا الامتزاج مبدأ ، والخلاص معادا.
__________________
(١) سورة الأنعام : الآية ٧٦.
(٢) سورة الأنبياء : الآية ٦٣.
(٣) أصمى المرء الصيد : رماه فقتله فكان مكانه وهو يراه ، وأصله من السرعة والخفة.
(٤) سورة آل عمران : الآية ٦٧.
(٥) سورة الحج : الآية ٣١.