[كيف يجوز أن يخبرنا بأنّه] جعلهم ؛ كفّارا وخلق كفرهم! والكلام خرج مخرج الذّم لهم ؛ والتوبيخ على كفرهم ، والمبالغة في الإزراء عليهم! وأيّ مدخل لكونه خالقا لكفرهم في باب ذمّهم! وأيّ نسبة بينه وبين ذلك! بل لا شيء أبلغ في عذرهم وبراءتهم من أن يكون خالقا لما ذمّهم من أجله. وهذا يقتضي أن يكون الكلام متناقضا مستحيل المعنى ؛ ونحن نعلم أنّ أحدا إذا أراد ذمّ غيره ، وتوبيخه وتهجينه بمثل هذا الضرب من الكلام إنّما يقول : ألا أخبركم بشرّ الناس وأحقّهم بالذم واللوم! من فعل كذا ، وصنع كذا ؛ وكان على كذا وكذا ؛ فيعدّد من الأحوال والأفعال قبائحها ، ولا يجوز أن يدخل في جملتها ما ليس بقبيح ؛ ولا ما هو من فعل الذامّ ومن جهته ؛ حتى يقول في جملة ذلك : ومن شاغل بالصّنعة الفلانية التي أسلمها إليه وحمله عليها ؛ وإن عقلا يقبل هذه الشبهة لعقل ضعيف سخيف.
فإن قيل : أليس قد ذمّهم في الكلام بأن جعل منهم القردة والخنازير ؛ ولا صنع لهم في ذلك! فكذلك يجوز أن يذمّهم ويجعلهم عابدين للطاغوت ؛ وإن كان من فعله!.
قيل : إنّما جعلهم قردة وخنازير عقوبة لهم على أفعالهم وباستحقاقهم ، فجرى ذلك مجرى أفعالهم ، كما ذمّهم بأن لعنهم وغضب عليهم ؛ من حيث استحقّوا ذلك منه تعالى بأفعالهم وعبادتهم للطاغوت ؛ فإن كان هو خلقها فلا وجه لذمّهم بها ؛ لأنّ ذلك ممّا لا يستحقّونه بفعل متقدّم كاللّعن والمسخ.
ثم نعود إلى تأويل الآية فنقول : لا ظاهر للآية يقتضي ما ظنّوه ، وأكثر ما تضمّنته الأخبار بأنّه جعل وخلق من يعبد الطاغوت كما جعل منهم القردة والخنازير ؛ ولا شبهة في أنّه تعالى هو خالق الكافر ، وأنّه لا خالق له سواه ؛ غير أن ذلك لا يوجب أنّه خلق كفره وجعله كافرا.
وليس لهم أن يقولوا : كما نستفيد من قوله : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) أنّه جعل ما به كانوا كذلك ؛ هكذا نستفيد من قوله : جعل منهم من عبد الطاغوت