وقد قيل أيضا : إنّ اليهود وصفوا الله تعالى بالبخل ، واستبطؤوا فضله ورزقه ؛ وقيل : إنّهم قالوا على سبيل الاستهزاء : إنّ إله محمد الذي أرسله ؛ يداه إلى عنقه ؛ إذ ليس يوسّع عليه وعلى أصحابه ، فردّ الله قولهم وكذّبهم بقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) ، واليد هاهنا الفضل والنعمة ، وذلك معروف في اللغة ، متظاهر في كلام العرب وأشعارهم.
ويشهد بذلك من الكتاب قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (١) ، ولا معنى لذلك إلّا الأمر بترك إمساك اليد عن النفقة في الحقوق ؛ وترك الإسراف ، إلى القصد والتوسّط.
ويمكن أن يكون الوجه في تثنية النعمة من حيث أريد بها نعم الدنيا ونعم الآخرة ؛ لأنّ الكلّ ـ وإن كانت نعم الله ـ فمن حيث اختصّ كلّ واحد من الأمرين بصفة تخالف صفة الآخر صارا كأنّهما جنسان أو قبيلان.
ويمكن أيضا أنّه أريد بها النعم الظاهرة والباطنة.
فأمّا قوله تعالى : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) ، ففيه وجوه :
أوّلها : أن لا يكون ذلك على سبيل الدّعاء ؛ بل على وجه الإخبار منه عزوجل عن نزول ذلك بهم ؛ وفي الكلام ضمير «قد» قبل قوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) ، وموضع (غُلَّتْ) نصب على الحال ، كأنّه تعالى قال : وقالت اليهود كذا وكذا ؛ في حال ما غلّ الله تعالى أيديهم ولعنهم ، أو حكم بذلك فيهم ؛ ويسوغ إضمار «قد» هاهنا كما ساغ في قوله عزوجل : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ) (٢) والمعنى : وقد صدقت ، وقد كذبت.
وثانيها : أن يكون معنى الكلام وقالت اليهود يد الله مغلولة فغلّت أيديهم ، أو وغلّت أيديهم ، وأضمر تعالى الفاء والواو ؛ لأنّ كلامهم تمّ ، واستؤنف بعده كلام آخر ؛ ومن عادة العرب أن تحذف فيما يجري مجرى هذا الموضع ؛ من
__________________
(١) سورة الإسراء ، الآية : ٢٩.
(٢) سورة يوسف ، الآيتان : ٢٦ ـ ٢٧.