من عادة أهل اللسان في خطابهم إذا أوردوا جملة مصرّحة وعطفوا عليها بكلام محتمل لما تقدّم التصريح به ولغيره ، لم يجز أن يريدوا بالمحتمل إلّا المعنى الأوّل ، يبيّن صحّة ما ذكرناه أن أحدهم إذا قال مقبلا على جماعة ومفهما لهم وله عدّة عبيد : ألستم عارفين بعبدي فلان؟ ثم قال عاطفا على كلامه : فاشهدوا أن عبدي حرّ لوجه الله تعالى ، لم يجز أن يريد بقوله : «عبدي» بعد أن قدم ما قدمه ، إلّا العبد الذي سمّاه في أول كلامه دون غيره من سائر عبيده ، ومتى أراد سواه كان عندهم ملغّزا خارجا عن طريقة البيان ، ويجري قوله : فاشهدوا أن عبدي حرّ ، عند جميع أهل اللسان مجرى قوله : فاشهدوا أن عبدي فلانا حر ، إذا كرّر مجرى تسميته وتعيينه ، وهذه حال كلّ لفظ محتمل عطف على لفظ مفسّر على الوجه الذي صوّرناه ، فلا حاجة بنا إلى تكثير الأمثلة منه.
فإن قال : وكيف يشبه المثال الذي أوردتموه خبر الغدير ، وإنّما تكررت فيه لفظة عبدي غير موصوفة على سبيل الاختصار بعد أن تقدّمت موصوفة ، وخبر الغدير لم يتكرّر فيه لفظة واحدة ، وإنما وردت لفظة مولى ، فادعيتم أنها تقوم مقام أولى المتقدّمة.
قيل له : إنّك لم تفهم موقع التشبيه بين المثال وخبر الغدير ، وكيفية الاستشهاد به ؛ لأن لفظة «عبدي» وإن كانت متكرّرة فيه ، فإنّها لما وردت أولا موصولة بفلان جرت مجرى المفسّر المصرح الذي هو ما تضمنته المقدّمة في خبر الغدير من لفظ أولى ، ثم لما وردت من بعد غير موصولة حصل فيها احتمال واشتباه لم يكن في الأول ، فصارت كأنّها لفظة أخرى تحتمل ما تقدّم وتحتمل غيره ، وجرت مجرى لفظة مولى من خبر الغدير في احتمالها لما تقدّم ولغيره ، على أنا لو جعلنا مكان قوله : «فاشهدوا أن عبدي حرّ» «أشهدوا أن غلامي أو مملوكي حر» لزالت الشبهة في مطابقة المثال للخبر ، وإن كان لا فرق في الحقيقة بين لفظة «عبدي» إذا تكرّرت ، وبين ما يقوم مقامها من الألفاظ في المعنى الذي قصدناه.
فإن قال : ما تنكرون من أن يكون إنّما قبح أن يريد القائل الذي حكيتم قوله