نهيت أنت عن كذا إلّا أن تكون فلانا» وإنّما يعني أنّ المنهي هو فلان دونك ، ولم يرد إلّا أن تنقلب فتصير فلانا. ولمّا كان غرض إبليس إلقاء الشبهة لهما فمن أوكد الشبه إيهامهما أنّهما لم ينهيا وانّما المنهي غيرهما.
ومن وكيد ما يفسد به هذه الشبهة أن يقال : ما أنكرتم أن يكونا رغبا في أن ينقلبا إلى صفة الملائكة وخلقتهم كما رغبهما إبليس في ذلك ، ولا تدلّ هذه الرغبة على أنّ الملائكة أفضل منهما ؛ لأنّ المنقلب إلى خلقة غيره لا يجب أن يكون مثل ثوابه له ؛ فإنّ الثواب لا ينقلب ولا يتغيّر بانقلاب الصور والخلق ، فانّه إنتما يستحقّ على الاعمال دون الهيئات.
وغير ممتنع أن يكونا رغبا في أن يصيرا على هيئة الملائكة وصورها ، وليس ذلك برغبة في الثواب ولا الفضل ؛ فانّ الثواب لا يتبع الهيئات والصور.
إلّا ترى أنّهما رغبا في أن يكونا من الخالدين ، وليس الخلود ممّا يقتضي مزيّة في ثواب ولا فضلا فيه ، وإنّما هو نفع عاجل ، وكذلك لا يمتنع أن تكون الرغبة منهما في أن يصيرا ملكين إنّما كانت على هذا الوجه.
ويمكن أن يقال للمعتزلة خاصة وكلّ من أجاز على الأنبياء الصغائر : ما أنكرتم أن يكونا اعتقدا أنّ الملك أفضل من النبيّ وغلطا في ذلك وكان منهما ذنبا صغيرا ؛ لأنّ الصغائر تجوز عندكم على الأنبياء ، فمن أين لكم إذا اعتقدا أنّ الملائكة أفضل من الأنبياء ورغبا في ذلك أنّ الأمر على ما اعتقداه مع تجويزكم عليهم الذنوب.
وليس لهم أن يقولوا : إنّ الصغائر إنّما تدخل في أفعال الجوارح دون القلوب ؛ لأنّ ذلك تحكّم بغير برهان ، وليس يمتنع على أصولهم أن تدخل الصغائر في أفعال القلوب والجوارح معا ؛ لأنّ حدّ الصغير عندهم «ما نقص عقابه عن ثواب طاعات فاعله» ، وليس يمتنع معنى هذا الحدّ في أفعال القلوب كما لم يمتنع في أفعال الجوارح (١).
__________________
(١) الرسائل ، ٢ : ١٥٨ و ١٦٠ وراجع أيضا ، ١ : ٤٣٥.