كثير من أفعال البشر ؛ لأنّ معاقل الأرض هي التي يهرب إليها البشر من المكاره ؛ ويلجؤون بها إلى الاعتصام بها عند المخاوف ؛ فإذا نفى تعالى أن يكون لهم في الأرض معقل فقد نفى المعقل من كل وجه.
فأمّا قوله تعالى : (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) فمعناه أنّه لا وليّ لهم ، ولا ناصر من عذاب الله تعالى وعقابه لهم في الآخرة ؛ ولا ممّا يريد أيضا إيقاعه بهم في الدنيا ، وإن كان لهم من يحميهم من مكروه البشر وينصرهم ممّن أرادهم بسوء ؛ وقد يجوز أن يكون ذلك أيضا بمعنى الأمر ، وإن كان مخرجه مخرج الخبر ؛ ويكون التقدير : وليس لهم أن يتّخذوا أولياء من دون الله ، بل الواجب أن يرجعوا إليه في معونتهم ونصرهم ، ولا يعوّلوا على غيره.
فأمّا قوله عزوجل : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) ففيه وجوه :
أحدها : أن يكون المعنى : يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون ؛ وبما كانوا يستطيعون الإبصار فلا يبصرون ؛ عنادا للحقّ ، وذهابا عن سبيله ؛ فأسقط الباء من الكلام ، وذلك جائز كما جاز في قولهم : «لأجزينّك بما عملت» و «لأجزينّك ما عملت» ؛ و «لأحدثّنك بما عملت» و «لأحدثنك ما عملت» ؛ وكما قال الشاعر :
نغالي اللّحم للأضياف نيئا |
|
ونبذله إذا نضج القدير (١) |
فأراد : نغالي باللحم.
والوجه الثاني : أنّهم لاستثقالهم استماع آيات الله تعالى ، وكراهيّتهم تذكّرها وتفهّمها ، جروا مجرى من لا يستطيع السمع ، كما يقول القائل : ما يستطيع فلان أن ينظر لشدّة عداوته إلى فلان ، وما يقدر على أن يكلمه ؛ وكما نقول لمن عهدنا منه العناد والاستثقال لاستماع الحجج والبينات : ما تستطيع أن تسمع الحقّ ؛ وما تطيق أن يذكر لك ، وكما قال الأعشى :
__________________
(١) البيت في اللسان (غلا) : قال في شرحه : «نغالي اللحم ، نشتريه غاليا ، ثمّ نبذله ونطعمه إذا نضج في قدورنا». والقدير : ما طبخ من اللحم بتوابل.