ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل |
|
وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل (١) |
ونحن نعلم أنّه قادر على الوداع ؛ وإنّما نفى قدرته عليه من حيث الكراهة والاستثقال. ومعنى : «وما كانوا يبصرون» أي أن إبصارهم لم يكن نافعا لهم ؛ ولا مجديا عليهم ؛ مع الإعراض عن تأمّل آيات الله تعالى وتدبّرها ؛ فلمّا انتفت عنهم منفعة الإبصار جاز أن ينفي عنهم الإبصار نفسه ؛ كما يقال للمعرض عن الحقّ ، العادل عن تأمّله : مالك لا تبصر ، ولا تسمع ؛ ولا تعقل؟ وما أشبه ذلك.
والوجه الثالث : [أن يكون معنى نفى السمع والبصر] راجعا إلى آلهتهم لا إليهم ؛ وتقدير الكلام : أولئك وآلهتهم لم يكونوا معجزين في الأرض ، يضاعف لهم العذاب ؛ ثمّ قال مخبرا عن الآلهة : «ما كانوا يستطيعون السّمع وما كانوا يبصرون» ، وهذا الوجه يروي عن ابن عباس «رحمة الله عليه» ، وفيه أدنى بعد.
ويمكن في الآية وجه رابع : وهو أن يكون ما في قوله تعالى : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) ليست للنفي ؛ بل تجري مجرى قولهم : لأواصلنّك ما لاح نجم ؛ ولأقيمنّ على مودّتك ما طلعت شمس ؛ ويكون المعنى أنّ العذاب يضاعف لهم في الآخرة ؛ ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ؛ أي أنّهم معذّبون ما كانوا أحياء.
فإن قيل : كيف يعبّر عن كونهم أحياء باستطاعة السمع والإبصار ؛ وقد يكون حيّا من لا يكون كذلك؟
قلنا : للعرب في مثل هذا عادة ؛ لأنّهم يقولون : والله لا كلّمت فلانا ما نظرت عيني ، ومشت قدمي ؛ وهم ، يريدون : ما بقيت وحييت ؛ لأنّ الأغلب من أحوال الحيّ أن تنظر عينه ، وتمشي قدمه ؛ فجعلوا الأغلب كالواجب ؛ ومن ذلك قول الشاعر :
وما أنس من شيء تقادم عهده |
|
فلست بناس ما هدت قدمي نعلي |
عشيّة قالت والدّموع تعينها : |
|
هنيئا لقلب عنك لم يسله مسلي |
__________________
(١) ديوانه : ٤١.