«ذلك» ؛ ولو أرادها لقال : ولتلك خلقهم ، فلمّا قال : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) كان رجوعه إلى الاختلاف أولى. وليس يبطل حمل الآية على الاختلاف من حيث لم يكن مذكورا فيها ؛ لأنّ الرحمة أيضا غير مذكورة فيها ، وإذا جعلتم قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) دالّا على الرحمة فكذلك قوله : (مُخْتَلِفِينَ) دالّ على الاختلاف ؛ على أنّ الرحمة هي رقّة القلب والشفقة ؛ وذلك لا يجوز على الله تعالى ، ومتى ما تعدّى بها ما ذكرناه ، لم يعن بها إلّا العفو وإسقاط الضرر ، وما جرى مجراه عن مستحقّه ، وهذا ممّا لا يجوز أن يكونوا مخلوقين له على مذهبكم ، لأنّه لو خلقهم للعفو لما حسن منه عقاب المذنبين ومؤاخذة المستحقين.
الجواب : يقال له : أمّا قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) فإنّما عني بها المشيئة التي ينضمّ إليها الإلجاء ، ولم يعن المشيئة على سبيل الاختيار ، وإنّما أراد تعالى أن يخبرنا عن قدرته ، وأنّه لا يغالب ، ولا يعصي مقهورا ؛ من حيث كان قادرا على إلجاء العبيد ، وإكراههم على ما أراد منهم.
فأمّا لفظة «ذلك» في الآية فحملها على الرحمة أولى من حملها على الاختلاف ؛ لدليل العقل وشهادة اللفظ ، فأمّا دليل العقل فمن حيث علمنا أنّه تعالى كره الاختلاف ؛ والذّهاب عن الدين ، ونهى عنه ، وتوعّد عليه ، فكيف يجوز أن يكون شائيا له ، ومجريا بخلق العباد إليه.
وأمّا شهادة اللفظ فلأنّ الرحمة أقرب إلى هذه الكناية من الاختلاف ، وحمل اللفظ على أقرب المذكورين إليها أولى في لسان العرب.
فأمّا ما طعن به السائل ، وتعلّق به من تذكير الكناية ، وأنّ الكناية عن الرحمة لا تكون إلّا مؤنثة فباطل ، لأنّ تأنيث الرحمة غير حقيقي ، وإذا كني عنها بلفظة التذكير كانت الكناية على المعنى ، لأنّ معناها هو الفضل والإنعام ؛ كما قالوا : سرّني كلمتك ، يريدون سرّني كلامك ، وقال الله تعالى : (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) (١) ؛ ولم يقل «هذه» ، وإنّما أراد هذا فضل من ربي ؛ وقالت الخنساء :
__________________
(١) سورة الكهف ، الآية : ٩٨.