مواضع كثيرة نزلت من الحسن في أعلى منازله ؛ ولو أفردنا لما في القرآن من الحذوف الغريبة ؛ والاختصارات العجيبة كتابا لكان واجبا.
فمن ظاهر ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) (١) ولم يأت ل «ولو» جواب في صرح الكتاب ؛ وإنّما أراد : لو أنّ قرآنا سيّرت به الجبال لكان هذا. ومثل هذا الحذف ما روي عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من قوله : «لو كتب هذا القرآن في إهاب وطرح في النار ما أحرقته النار» ؛ والمراد : وكانت النار ممّا لا يحرق جسما لجلالة قدره ما أحرقته ؛ فحذف ذلك اختصارا لدلالة الكلام عليه ، ومثل هذا قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٢) وتقديره : إنّ السموات والأرض والجبال لو كنّ ممّا يأبي ويشفق ، وعرضنا عليهنّ الأمانة لأبين وأشفقن. وجعل المعلوم بمنزلة الواقع فقال : (عَرَضْنَا) من حيث علم أنّ ذلك المشروط لو وقع شرطه لحصل هو.
وهذا التأويل الذي استخرجناه أولى ممّا ذكره المفسّرون من أنّه تعالى أراد : عرضنا الأمانة على أهل السموات والأرض ؛ لأنّ أهل السموات والأرض هم الناس والملائكة ، فأيّ معنى لقوله : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) وهو يريد الجنس! ومثله قول الشاعر :
امتلأ الحوض وقال قطني (٣)
والمعنى امتلأ حتى لو كان ممّن يقول لقال ذلك ، وهذا أولى في نفسي من تفسيرهم هذا البيت بأنّه ظهرت منه أمارات القول والنطق.
__________________
(١) سورة الرعد ، الآية : ٣١.
(٢) سورة الأحزاب ، الآية : ٧٢.
(٣) بعده :
حسبي رويدا قد ملأتبطني
والبيت في مقاييس اللغة ٥ : ١٤.