الثاني لكان أولى من قوله من قبل : إنّه لو كان المراد بالتأويل المتأوّل لا الفائدة والمعنى لم يكن لتخصيص المتشابه بذلك دون المحكم معنى ؛ لأنّ في متأوّل المحكم ـ كإخباره عن الثواب والعقاب والحساب ؛ ممّا لا شبهة في كونه محكما ـ ما لا يعرف تفصيله وكنهه إلّا الله تعالى ؛ فأيّ معنى لتخصيص المتشابه والكلام يقتضى توجّهه نحو المتشابه! ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ)! فخصّ المتشابه بالذكر.
والأولى أيضا أن يكون المراد بلفظة (تَأْوِيلِهِ) الثانية هو المراد ب (تَأْوِيلِهِ)» الأوّلى ، وقد علمنا أنّ الذين في قلوبهم زيغ إنّما اتّبعوا تأويله على خلاف معناه ولم يطلبوا تأويله الذي هي متأوّله ؛ والوجه الأوّل أقوى وأرجح.
ويمكن في الآية وجه ثالث لم نجدهم ذكروه ، على أن يكون قوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مستأنفا غير معطوف ، ويكون المعنى : وما يعلم تأويل المتشابه بعينه وعلى سبيل التفصيل إلّا الله ؛ وهذا صحيح لأنّ أكثر المتشابه قد يحتمل الوجوه الكثيرة المطابقة للحقّ ، الموافقة لأدلّة العقول ؛ فيذكر المتأوّل جميعها ، ولا يقطع على مراد الله منها بعينه ، لأنّ الذي يلزم مثل ذلك أن يعلم فى الجملة أنّه لم يرد من المعني ما يخالف الأدلّة ؛ وأنّه قد أراد بعض الوجوه المذكورة المتساوية في الجواز ، والموافقة للحقّ. وليس في تكليفنا أن نعلم المراد بعينه ؛ وهذا مثل الضلال والهدى اللّذين تبيّن احتمالهما لوجوه كثيرة ؛ منها ما يخالف الحقّ فنقطع على أنه تعالى لم يرده ، ومنها وجوه تطابق الحق ، فنعلم في الجملة أنّه قد أراد أحدها ، ولا يعلم المراد منها بعينه وغير هذا من الآي المتشابهة ؛ فإن أكثرها يحتمل وجوها ، والقليل منها يختصّ بوجه واحد صحيح ولا يحتمل سواه ؛ ويكون قوله تعالى من بعد : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) ، أي صدّقنا بما نعلمه مفصّلا ومجملا من المحكم والمتشابه ؛ وأنّ الكلّ من عند ربّنا ؛ وهذا وجه واضح (١).
__________________
(١) الأمالي ، ١ : ٤١٨.