والوجه الثاني في الآية : أن يكون قوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مستأنفا غير معطوف على ما تقدّم ، ثمّ أخبر عنهم بأنّهم : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) ، ويكون المراد بالتأويل على هذا الجواب المتأوّل ، لأنه قد يسمّى تأويلا ، قال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) (١) ، المراد بذلك لا محالة المتأوّل ، والمتأوّل الذي لا تعلمه العلماء ؛ وإن كان الله عزوجل عالما به ، كنحو وقت قيام الساعة ، ومقادير الثواب والعقاب ، وصفة الحساب ، وتعيين الصغائر ؛ إلى غير ذلك ؛ فكأنّه قال : وما يعلم تأويل جميعه. على المعنى الذي ذكرناه إلّا الله ؛ والعلماء يقولون آمنّا به.
وقد اختار أبو عليّ الجبائيّ هذا الوجه ، وقوّاه ، وضعّف الأوّل بأن قال : قول الراسخين في العلم (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) دلالة على استسلامهم ؛ لأنّهم لا يعرفون تأويل المتشابه ، كما يعرفون تأويل المحكم ، ولأنّ ما ذكرناه من وقت القيامة ، ومن التمييز بين الصغائر والكبائر هو من تأويل القرآن ؛ إذا كان داخلا في خبر الله ؛ والراسخون في العلم لا يعلمون ذلك.
وليس الذي ذكره بشيء ؛ لأنّه لا يمتنع أن يقول العلماء مع علمهم بالمتشابه : (آمَنَّا بِهِ) على الوجه الذي قدّمنا ذكره ؛ فكيف يظنّ أنّهم لا يقولون ذلك إلّا مع فقد العلم به! وما المنكر من أن يظهر الإنسان بلسانه الإيمان بما يعلمه ويتحققه! فأمّا قوله : «ولأنّ ما ذكرناه من تأويل القرآن» ، فذلك إنّما يكون تأويلا للقرآن إذا حملت هذا اللفظة على المتأوّل ، لا على الفائدة والمعنى. وأمّا إذا حملت على أنّه : وما يعلم معنى المتشابه وفائدته إلّا الله ، فلا بدّ من دخول العلماء فيه.
وليس يمكنه أن يقول : إنّ حمل التأويل على المتأوّل أظهر من حمله على المعنى والفائدة ؛ لأنّ الأمر بالعكس من ذلك ؛ بل حمله على المعنى أظهر وأكثر في الاستعمال ، وأشبه بالحقيقة ؛ على أنّه لو قيل : إنّ الجواب الأوّل أقوى من
__________________
(١) سورة الأعراف ، الآية : ٥٣.