وقال في الذين تبؤوا الدار والإيمان ـ وهم الأنصار ـ : (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) (١). وقال فيمن جاء بعدهم : (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) (٢) فهذه الآيات تدلّ على أنّه لا ينكر في آية (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أن يكون قوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) حالا لهم ؛ مع العلم بتأويل المتشابه ؛ ولو أشكل شيء من ذلك لما أشكل قوله : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) في أنّه موافق لقوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) وأنّ الصورتين واحدة.
وممّا يستشهد به على ذلك من الشعر قول يزيد بن مفرّغ (٣) في عبد له كان يسمّي بردا باعه ثمّ ندم عليه :
وشريت بردا ليتني |
|
من بعد برد كنت هامه (٤) |
هامة تدعو صدى |
|
بين المشقّر فاليمامه (٥) |
الرّيح تبكى شجوه |
|
والبرق يلمع في الغمامه |
فعطف البرق على الريح ، ثمّ اتبعه بقوله : «يلمع» ؛ كأنّه قال : والبرق أيضا يبكيه لا معا في غمامه ؛ أي في حال لمعانه ؛ ولو لم يكن البرق معطوفا على الريح في البكاء لم يكن للكلام معنى ولا فائدة.
ويمكن أيضا على هذا الوجه ـ مع عطف «الراسخين» على ما تقدّم ، وإثبات العلم بالمتشابه لهم ـ أن يكون قوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) استئنافها جملة ، واستغني فيه عن حرف العطف ؛ كما استغني في قوله تعالى : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) (٦) ونحو ذلك ممّا للجملة الثانية فيه التباس في الجملة الأولى ، فيستغنى به عن حرف العطف ، ولو عطف بحرف العطف كان حسنا ، ينزّل الملتبّس منزلة غير الملتبّس.
__________________
(١) سورة الحشر ، الآية : ٩.
(٢) سورة الحشر ، الآية : ١٠.
(٣) هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ ؛ وخبر بيعه بردا ، مع الأبيات في الأغاني : ١٧ / ٥٣ ـ ٥٥.
(٤) شريت : بعت ، والهامة والصدى ، كلاهما كناية عما تزعم العرب أنه يطير من رأس الميت.
(٥) المشقر : حصن بين البحرين ونجران.
(٦) سورة الكهف ، الآية : ٢٢.