من بعدي ، وعدّ منها المنّ بعد الصدقة الحديث ، والحقّ أنّ العمل بمقتضى الإخلاص يقتضي أن لا يصدرا منه في شيء من الأوقات لأنّه إنّما دفعها قاصدا وجهه تعالى وما عداه غير ملحوظ فيها ، ومقتضى ذلك أنّه لا يقع منه منّ ولا أذى ، فإنّ ذلك إنّما يكون مع ملحوظيّة الغير [لا مطلقا] ولكنّ التخلّص منهما بل من الرئاء والسمعة الّتي هي الشرك الخفيّ في غاية الصعوبة.
ثمّ إنّه تعالى لمّا ذكر حال الإنفاق مع المنّ والأذى والرئاء ذكر بعدها حال المخلصين في الإنفاق ليبيّن الحالتين وما بينهما من التفاوت فقال :
(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) طلبا لرضاه (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي ليثبتوا بعض أنفسهم على الإيمان فإنّ المال شقيق الروح فمن بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه عليه ، ومن بذل ماله وروحه فقد ثبّتها كلّها عليه فمن على هذا تبعيضيّة ويحتمل كونها ابتدائيّة أي تصديقا للإسلام ، وتحقيقا للجزاء مبتدئا من أصل أنفسهم لأنّ المسلم إذا أنفق ماله في سبيل الله علم أنّ تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن إخلاص قلبه.
وفيه تنبيه على أنّ حكمة الإنفاق للمنفق تزكية نفسه من البخل والمنّ وحبّ المال ويحتمل على الثاني أن يكون المعنى وتثبيتا من أنفسهم عند المؤمنين بأنّها صادقة الإيمان مخلصة فيه ، ويعضده قراءة بعضهم وتبيينا من أنفسهم لأنّ التبيين إنّما يكون عند المؤمنين.
فمثل إنفاق هؤلاء (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) أي بستان في موضع مرتفع ولعلّ التخصيص بذلك لأنّ الشجرة فيها أزكى ثمرة وأحسن منظرا من الأسفل الّذي يسيل الماء إليه ويجتمع فيه ، والأحسن أن يراد بالربوة الأرض الطيّبة الحرّة الّتي تنتفخ وتربو إذا نزل عليها المطر ، فإنّها إذا كانت كذلك كثر دخلها وكمل شجرها ، كقوله : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) (١) وإنّما كان هذا أحسن لأنّ المكان البعيد لا يحسن ريعة لبعده عن الماء وربّما تضرّ به الرياح ، كما أنّ الوهاد
__________________
(١) الحج : ٥.