(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (٢٠٠)
أمر الله بذكر الله في أيام التشريق ، فإن العرب كانت في هذه الأيام في الموسم تذكر أنسابها وأحسابها لاجتماع قبائل العرب في هذه الأيام ، تريد بذلك الفخر والسمعة ، فهذا معنى قوله : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) أي اشتغلوا بالثناء على الله بما هو عليه على طريق الفخر إذ كنتم عبيده ، وفخر العبد بسيده ، فإنه مضاف إليه ، وأكبر من ذلك من كونه منه ، قال صلىاللهعليهوسلم : (مولى القوم منهم) ولا فخر للعبد بأبيه ، بل فخره بسيده ، وإن افتخر العبد بأبيه فإنما يفتخر به من حيث أن أباه كان مقربا عند سيده ، لأنه عبد مثله ، ممتثلا لأمره واقفا عند حدوده ورسومه ، فإنه أيضا عبد الله ، فلهذا قال : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) أي أديموا
____________________________________
به ، فقال : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) ومن الهداية وقوفنا بعرفات ، إذ كانت الحمس لا تقف إلا بالمزدلفة اختصاصا لها على سائر الناس ، لشرفها وتميزها بشفوفها في ذلك الموضع على سائر الناس ، فهدى الله نبيه إلى ما هو الحق عنده من الوقوف في ذلك اليوم بعرفة ، وهو قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) في وقوفكم بالمزدلفة ، وقوله : (٢٠٠) (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) الأوجه في تأويلها يخاطب الحاج ، يقول لهم : ثم أفيضوا كما أفضتم من عرفات إلى المزدلفة ، أفيضوا من المزدلفة إلى منى ، وقوله : (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) يريد قريشا فإن قريشا كانت تفيض من المزدلفة ، فلم تكن لهم سوى إفاضة واحدة من المزدلفة إلى منى ، والوجه الآخر : أن يكون الضمير يعود على قريش ، يقول لهم : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) يعني من عرفات ، فتكون (ثُمَّ) هنا قد سيقت لترتيب الجمل اللفظية ، لا لترتيب المعنى ، إذ لم يكن في الآيات المذكورة ذكر للحمس ، وإنما خاطب في هذه الآيات كل من حج من أحمس وغيره ، فحملها على ما قلناه أولى في التأويل ، فإنه على التأويل الثاني يكون هذا التأخير يراد به التقديم ، فيكون موضعه بعد قوله : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) (ثُمَّ أَفِيضُوا) يعني الحمس ومن تحمّس (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ