والصراط المحسوس ، والنار والجنة المحسوستين ، فإن كل ذلك حق ، وأعظم في القدرة ، فإن ثمّ نشأتين ، نشأة الأجسام ونشأة الأرواح وهي النشأة المعنوية ، ولولا أن الشرع عرّف بانقضاء هذه الدار ، وأن كل نفس ذائقة الموت ، وعرف بالإعادة ، وعرف بالدار الآخرة ،
____________________________________
السين ، يقال نسك ينسك نسكا ونسيكة ومنسكا إذا ذبح نسكه بفتح السين ، ويجمع على مناسك ، والنسك أيضا العبادة والزهد ، والمنسك الموضع المشروع للعبادة فيه ، ومناسك الحج من ذلك ، فإنها أماكن مخصوصة وأفعال مخصوصة ، وهي ما بين فرض وسنة واستحباب ، فقال تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) أي الأفعال التي شرعناها لكم في أماكنها ، على حد ما شرعناها من واجب وغيره (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) يدل على أن عادتهم كانت جارية منهم في ذلك الزمان بعد فراغ المناسك يذكرون آباءهم ويفتخرون بأنسابهم ، ويقومون النسابون في ذلك الوقت فيذكرون الأنساب ، وحكاية أبي بكر الصديق مع الأعرابي مذكورة بحضور النبي عليهالسلام ، فلما كان لهم بذكر آبائهم في ذلك الموطن شدة عناية ، قال الله لهم : (فَاذْكُرُوا اللهَ) مثل ذكركم آباءكم ، أي افتخروا بالله واذكروا نعمه عليكم كما تذكرون آباءكم (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) يقول : بل أكثر ذكرا ، لأن الذي تنسبونه لآبائكم من الفخر الذي تفخرون به إنما هو من عطائي ونعمتي ، وأنا أحق بالذكر ، وإنما قرر ذكر الآباء بالخير من البر بالوالدين والإحسان لهم ، وقد قرر الشارع ذلك لعباده فقال : (أَنِ اشْكُرْ لِي) وهو قوله : (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (وَلِوالِدَيْكَ) وهو قوله : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) وقال : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) ولم يخص سبحانه بهذا الذكر الذي أمرنا به ذكرا من ذكر ، لكن نبه بما ذكر بعد ذلك أن الدعاء من الذكر المطلوب هنا ، إذ كان من دعاك فقد ذكرك ، وليس كل من ذكر دعا ، فقال تعالى : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (٢٠٢) (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) يقول : فمن الناس (مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) يطلب من الله خيرا في الدنيا ، وما له في الدعاء في خير الآخرة (مِنْ خَلاقٍ) أي من نصيب ، وهذا حالة من اشتدت ضرورته في الدنيا حتى أنسته الآخرة ، فأخبر الله تعالى عنه أنه ما جعل للآخرة في دعائه نصيبا و «منهم» يعني من الناس (مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي حالة حسنة في كل شيء ومن كل شيء (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) أي حالة حسنة كذلك ، (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) يعم عذاب الدنيا والآخرة ، إذ يجمعهما العذاب ، فإن النار قد تكون في الدنيا رحمة لإصلاح معايش الناس ، فالمسؤول الوقاية من عذابها ، ومن خصص التأويل بحسنة دون حسنة فقد قيد ما أطلقه الله في الإخبار عنهم ، والناس يسألون بحسب أغراضهم ،