وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١٩٠)
وهم الذين يعقلون معانيها بما ركب فيهم سبحانه من القوة العقلية ، فهذه آيات دلالتها مشروطة بأولي الألباب ، وهم العقلاء الناظرون في لب الأمور لا في قشورها ، فهم الباحثون عن المعاني ، وإن كانت الألباب والنهى العقول ، فلم يكتف سبحانه بلفظة العقل حتى ذكر الآيات لأولي الألباب ، فما كل عاقل ينظر في لبّ الأمور وبواطنها ، فإن أهل النظر لهم عقول بلا شك ، وليسوا بأولي الألباب ، ولا شك أن العصاة لهم عقول ولكن ليسوا بأولي نهى.
(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) (١٩١)
الذاكرون ثلاثة : ذاكر قائم ، وهو الذي له مشاهدة قيومية الحق ، فيراه قائما على كل نفس بما كسبت ، فلا يشهده إلا هكذا في ذكره ، وذاكر قاعد ، وهو الذي يشهد من الحق استواءه على العرش ، وذاكر على الجنوب ، وهو يقرب من الغيوب ، لأنها حالة النائم أو المريض ، وهو قريب من حضرة الخيال وهي محل الغيوب ، وإنما قلنا ذلك لأن العالم مرآة الحق ، والحق مرآة الرجل الكامل ، وينعكس النظر في المرآة ، فيظهر في المرآة ما هو في المرآة الأخرى ، لا يعرف ذلك إلا من رأى ذلك (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) التفكر بمعنى الاعتبار لا يكون في أحد من المخلوقين سوى هذا الصنف البشري ، وهو لأهل العبر الناظرين في الموجودات من حيث ما هي دلالات ، لا من حيث أعيانها ولا من حيث ما تعطي حقائقها ، لذلك قال تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإذا تفكروا أفادهم ذلك التفكر علما لم يكن عندهم ، فهم أصحاب البصر الذي يعتبر ، وصاحب الأذن التي تعي وصاحب القلب الذي يعقل ، فيعطيهم التفكر مما سمعوا وأبصروا وتقليب الأحوال عليهم أن يقولوا (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ) فسبحوه ، أي جعلوه منزها عن إيجاب العلة عليه في خلقه ، لأنه إذا خلقها لحكمة فكأن تلك الحكمة أوجبت الخلق عليه ، وما ثم موجب عليه إلا ما يوجبه بنفسه على نفسه لخلقه امتنانا منه لصدق وعده لا غير ،