ومعلوم أن القرآن مهداة كله ، ولكن بالتأويل في المثل المضروب ضل من ضل ، وبه اهتدى من اهتدى ، فهو من كونه مثلا لم تتغير حقيقته ، وإنما العيب وقع في عين الفهم ، فاحذر من القرآن إلا أن تقرأه فرقانا فإن الله (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) أي يحيرهم (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) أي يرزقهم الفهم فيه بما هو عليه من البيان ، فعلّمك في هذه الآية أن لا تترك شيئا إلا وتنسبه إلى الله ولا يمنعك حقارة ذلك الشيء ولا ما تعلق به من الذم عرفا وشرعا في عقدك ، ثم تقف عند الإطلاق ، فلا تطلق ما في العقد على كل شيء ولا في كل حال وقف عندما قاله لك الشارع ، قف عنده فإن ذلك هو الأدب الإلهي الذي جاء به الشرع. (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) فإنهم حاروا فيه ، والضلالة الحيرة ، ورأوا عزة الله وجلاله وكبرياءه وحقارة البعوضة في المخلوقات ، فاستعظموا جلال الله أن ينزل في ضرب المثل لعباده هذا النزول ، وذلك لجهلهم بالأمور فإنه لا فرق بين أعظم المخلوقات وهو العرش المحيط ، وبين
____________________________________
الوجهين ، على ما تتأوله الأشاعرة ، أو على ما ذهب إليه السلف من الوقوف عند ذلك من غير تأويل ، قال تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) فأبهمه بقوله «ما» أي بكل ما يجوز أن يضرب به المثل ، لأن القصد من المثل إيصال المعنى إلى المخاطب السامع ، حتى يفهم المراد منه إذا كان لا يصل إلى معرفة المعاني بغامضات الأدلة لبعدها ، فينزل لهم المتكلم في العبارات بضرب الأمثال لذلك ، ولا يتصور أن ينكر ضرب الأمثال بالمحقرات أهل الكتاب ، لأنه في كتبهم من ذلك كثير ، وهم مؤمنون به إلا أن يباهتوا ، وأما ما عدا أهل الكتاب فقد يسوغ منهم ذلك على الطريقين اللذين ذكرناهما ، من التعظيم لله ، وعدم التعظيم أو التعليل ، ثم قال (بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) في الصغر كالذرة ، ثم قال (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) يريد أصحاب الكتب ، ونحن وكل من أنزل عليه كتاب وآمنوا بكتبهم (فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) المثل (الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي حق مطابق للممثل به ، وأن الله قاله (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا) الذي ذكره (مَثَلاً) أي لأي شيء ضرب المثل ، وقد يتصور هذا القول من العالم أنه من الحق ومن غيره ، فيقوله معنى : إنه على زعمكم أنه قاله سبحانه ، فقال تعالى (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) يعني بالمثل يقول ليضل به (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) ولم يذكر المؤمنين وذكر الفاسقين (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) الذين خرجوا عما دخل فيه المؤمنون من الإيمان بالله مطلقا ، وبرسوله في حق البراهمة ، وبمحمد في حق من كفر به من أهل الكتب ، على الخصوص ، وما جاء به ، والفسوق الخروج عن الشيء ، وفي الشرع الخروج عن