الذرة في الخلق ، والبعوضة وإخراجها من العدم إلى الوجود ، فما هي حقيرة إلا في صغر جسمها إذا أضفته إلى ذي الجسم الكبير ، بل الحكمة في البعوضة أتم ، والقدرة أنفذ ، فإن البعوضة على صغرها خلقها الله على صورة الفيل على عظمه ، فخلق البعوضة أعظم في الدلالة على قدرة خالقها من الفيل لأهل النظر والاعتبار ، ولهذا لم يصف نفسه بالحياء في ذلك لما فيها من الدلالة على تعظيم الحق ، ثم إن من رحمته تعالى بخلقه أن قال (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) الخارجين عن حكم إما العقل السليم أو الشرع المعصوم ، وهم الذين خرجوا عن حدوده ورسومه ، فأعطانا العلامة ، فمن وجد في نفسه تلك العلامة علم أنه من أهل الضلال.
(الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨)
الوجه الأول ـ (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) وهو الموت الأصلي لا عن حياة متقدمة في الموصوف بالموت ، وهو العدم الذي للممكن إذ كان معلوم العين لله ولا وجود
____________________________________
أوامر الله ، ثم وصفهم فقال تعالى (٢٨) (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) مطلقا ، يريد ميثاق أخذ الذرية بالإقرار ، وأخذ العهد على أهل الكتاب ، وقوله (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من وصل الإيمان بالرسل مع الإيمان بالله في حق البراهمة ومن قال بقولهم ، وفي حق أهل الكتاب الذين جحدوا نبوة محمد عليهالسلام ولم يصلوا إيمانهم به بإيمانهم بالله ورسلهم (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) أن يفعلوا فيها بخلاف أمر الله مطلقا (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) يقول : هم الذين ما ربحت تجارتهم ، بل خسروا رأس مالهم ، وبعد أن ذكرنا أصول هذه الآية من الإيمان ، فالمقصود أيضا منها فروع الأحكام ، فكل عهد مشروع بيننا بعضنا في بعض ، وبين الكفار وبيننا مما ألزمنا الحق الوفاء به ، يدخل تحت هذا النقض ، وأنه عهد الله الذي شرعه لنا ، وكذلك ما أمرنا الله به أن نوصله من الأرحام وأهل ودّ آبائنا ، فيلزمنا إيصاله ، وتلحقنا المذمة من هذه الآية بقطع ذلك (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) حيث اشتروا الضلالة بالهدى ، والعذاب بالمغفرة ، والكفر