الحسن والإتقان (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) ، أي : خلل ونقص. وإذا انتفى النقص من كلّ وجه ، وصارت حسنة كاملة ، متناسبة من كلّ وجه ، في لونها وهيئتها ، وارتفاعها ، وما فيها من الشمس ، والكواكب النيرات ، الثوابت منهن والسيارات. ولما كان كمالها معلوما ، أمر الله تعالى بتكرار النظر إليها والتأمل في أرجائها ، فقال : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) ، أي : أعده إليها ، ناظرا معتبرا (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) ، أي : نقص واختلال.
[٤] (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) المراد بذلك : كثرة التكرار (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) ، أي : عاجزا عن أن يرى خللا أو فطورا ، ولو حرص غاية الحرص.
[٥] ثمّ صرح بذكر حسنها ، فقال : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ) ، إلى : (لِأَصْحابِ السَّعِيرِ). (وَلَقَدْ زَيَّنَّا) ، أي : ولقد جمّلنا (السَّماءَ الدُّنْيا) الّتي ترونها وتليكم. (بِمَصابِيحَ) وهي النجوم ، على اختلافها في النور والضياء ، فإنه لو لا ما فيها من النجوم ، لكانت سقفا مظلما ، لا حسن فيه ولا جمال. ولكن جعل الله هذه النجوم زينة للسماء ، وجمالا ونورا ، وهداية يهتدى بها في ظلمات البر والبحر. ولا ينافي إخباره أنه زين السماء الدنيا بمصابيح ، أن يكون كثير من النجوم فوق السماوات السبع ، فإن السماوات شفافة ، وبذلك تحصل الزينة للسماء الدنيا ، وإن لم تكن الكواكب فيها. (وَجَعَلْناها) ، أي : المصابيح (رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) الّذين يريدون استراق خبر السماء. فجعل الله هذه النجوم ، حراسة للسماء عن تلقف الشياطين أخبارها ، إلى الأرض ، فهذه الشهب ، الّتي ترمى من النجوم ، أعدها الله في الدنيا للشياطين. (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) لأنهم تمردوا على الله ، وأضلوا عباده ، ولهذا كان أتباعهم من الكفار مثلهم ، قد أعد الله لهم عذاب السعير ، فلهذا قال :
[٦] (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٦) الّتي يهان أهلها ، غاية الهوان.
[٧] (إِذا أُلْقُوا فِيها) على وجه الإهانة والذل (سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) ، أي : صوتا عاليا فظيعا (وَهِيَ تَفُورُ).
[٨] (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) ، أي : تكاد على اجتماعها أن يفارق بعضها بعضا ، وتتقطع من شدة غيظها على الكفار ، فما ظنك ما تفعل بهم ، إذا حصلوا فيها؟ ثمّ ذكر توبيخ الخزنة لأهلها ، فقال : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ)؟ أي : حالكم هذه واستحقاقكم النار ، كأنكم لم تخبروا عنها ، ولم تحذركم النذر منها.
[٩] (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) (٩) ، فجمعوا بين تكذيبهم الحاضر ، والتكذيب العام بكل ما أنزل الله. ولم يكفهم ذلك ، حتى أعلنوا بضلال الرسل المنذرين وهم الهداة المهتدون ، ولم يكتفوا بمجرد الضلال ، بل جعلوا ضلالهم ضلالا كبيرا ، فأي عناد وتكبّر وظلم يشبه هذا؟
[١٠] (وَقالُوا) معترفين بعدم أهليتهم للهدى والرشاد : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) فنفوا عن أنفسهم طرق الهدى ، وهي السمع لما أنزل الله ، وجاءت به الرسل ، والعقل الذي ينفع صاحبه ، ويوقفه على حقائق الأشياء ، وإيثار الخير ، والانزجار عن كلّ ما عاقبته ذميمة ، فلا سمع لهم ولا عقل. وهذا بخلاف أهل اليقين والعرفان ، وأرباب الصدق والإيمان ، فإنهم أيدوا إيمانهم بالأدلة السمعية ، فسمعوا ما جاء من عند الله ، وجاء به