وتوحيده وعبادته ، وهم سالمون ، لا علة فيهم ، فيستكبرون عن ذلك ويأبون ، فلا تسأل يومئذ عن حالهم ، وسوء مآلهم ، فإن الله سخط عليهم ، وحقت عليهم كلمة العذاب ، وتقطعت أسبابهم ، ولم تنفعهم الندامة والاعتذار يوم القيامة. ففي هذا ما يزعج القلوب عن المقام على المعاصي ، ويوجب التدارك مدة الإمكان.
[٤٤ ـ ٤٥] أي : دعني والمكذبين بالقرآن العظيم ، فإن عليّ جزاءهم ، ولا تستعجل لهم ، (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) فنمدهم بالأموال والأولاد ، ونمدهم في الأرزاق والأعمال ، ليغتروا ، ويستمروا على ما يضرهم ، وهذا من كيد الله لهم ، وكيد الله لأعدائه متين قوي ، يبلغ من ضررهم وعقوبتهم كلّ مبلغ.
[٤٦] (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) (٤٦) ، أي : ليس لنفورهم عنك ، وعدم تصديقهم لك ، سبب يوجب لهم ذلك ، فإنك تعلمهم ، وتدعوهم إلى الله ، لمحض مصلحتهم ، من غير أن تصيبهم من أموالهم مغرما ، يثقل عليهم.
[٤٧] (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (٤٧) ما كان عندهم من الغيوب ، وقد وجدوا أنهم على حق ، وأن لهم الثواب عند الله. فهذا أمر ما كان ، وإنّما كانت حالهم ، حال معاند ظالم.
[٤٨] فلم يبق إلا الصبر لأذاهم ، والتحمل لما يصدر منهم ، والاستمرار على دعوتهم ، ولهذا قال : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) ، أي : لما حكم به ، شرعا وقدرا ، فالحكم القدري ، يصبر على المؤذى منه ، ولا يتلقّى بالسخط والجزع ، والحكم الشرعي ، يقابل بالقبول والتسليم ، والانقياد لأمره. وقوله : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) وهو يونس بن متى ، عليه الصلاة والسّلام. أي : ولا تشابهه في الحال الّتي أوصلته وأوجبت له الانحباس في بطن الحوت ، وهو عدم صبره على قومه ، الصبر المطلوب منه ، وذهابه مغاضبا لربه ، حتى ركب البحر ، فاقترع أهل السفينة حين ثقلت بأهلها ، أيهم يلقون لكي تخف بهم ، فوقعت القرعة عليه ، فالتقمه الحوت وهو مليم. وقوله : (إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) ، أي : وهو في بطنها قد كظمت عليه ، أو نادى وهو مغتمّ مهتم ، فقال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). فاستجاب الله له ، وقذفته الحوت من بطنها بالعراء ، وهو سقيم ، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين ، ولهذا قال هنا :
[٤٩] (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) ، أي : لطرح في العراء ، وهي الأرض الخالية (وَهُوَ مَذْمُومٌ) ، ولكن الله تغمده برحمته ، فنبذ وهو ممدوح ، وصارت حاله أحسن من حاله الأولى ، ولهذا قال :
[٥٠] (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) ، أي : اختاره ونقاه من كلّ كدر. (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، أي : الّذين صلحت أعمالهم وأقوالهم ، ونياتهم وأحوالهم. فامتثل نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم أمر الله ، فصبر لحكم ربه صبرا لا يدركه أحد من العالمين. فجعل الله له العاقبة (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ولم يبلغ أعداؤه فيه إلا ما يسوؤهم.
[٥١] حتى إنهم حرصوا على أن يزلقوه بأبصارهم ، أي : يصيبوه بأعينهم ، من حسدهم وحنقهم وغيظهم. هذا منتهى ما قدروا عليه من الأذى الفعليّ ، والله حافظه وناصره. وأما الأذى القولي ، فيقولون فيه أقوالا ، بحسب ما توحي إليهم قلوبهم ، فيقولون تارة : «مجنون» ، وتارة : «شاعر» ، وتارة : «ساحر».
[٥٢] قال تعالى : (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٥٢) ، أي : وما هذا القرآن العظيم ، والذكر الحكيم ، إلا ذكر للعالمين ، يتذكرون به مصالح دينهم ودنياهم ، والحمد لله. تم تفسير سورة القلم ـ بمنّ الله وكرمه.