التام ، في نصرة دين الله ، وقمع دين الشيطان ، وهو ذروة الأعمال الصالحة ، وجزاؤه ، أفضل الجزاء ، وهو السبب الأكبر لتوسيع دائرة الإسلام وخذلان عبادة الأصنام ، وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم. فمن قام بهذه الأعمال الثلاثة ـ على لأوائها ومشقتها ـ كان لغيرها أشد قياما به وتكميلا. فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجين رحمة الله ، لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة ، وفي هذا دليل على أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام بأسباب السعادة ، وأما الرجاء المقارن للكسل ، وعدم القيام بالأسباب ، فهذا عجز وتمن وغرور ، وهو دالّ على ضعف همة صاحبه ، ونقص عقله ، بمنزلة من يرجو وجود الولد بلا نكاح ، ووجود الغلة بلا بذر ، وسقي ، ونحو ذلك. وفي قوله : (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) إشارة إلى أن العبد ـ ولو أتى من الأعمال بما أتى به ـ لا ينبغي له أن يعتمد عليها ، ويعول عليها ، بل يرجو رحمة ربه ، ويرجو قبول أعماله ومغفرة ذنوبه ، وستر عيوبه. ولهذا قال : (وَاللهُ غَفُورٌ) ، أي : لمن تاب توبة نصوحا (رَحِيمٌ) وسعت رحمته كل شيء ، وعمّ جوده وإحسانه كل حي. وفي هذا دليل على أن من قام بهذه الأعمال المذكورة ، حصل له مغفرة الله ، إذ الحسنات (يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) ، وحصلت له رحمة الله. وإذا حصلت له المغفرة ، اندفعت عنه عقوبات الدنيا والآخرة ، التي هي آثار الذنوب ، التي قد غفرت واضمحلت آثارها ، وإذا حصلت له الرحمة ، حصل على كل خير في الدنيا والآخرة. بل أعمالهم المذكورة من رحمة الله بهم ، فلو لا توفيقه إياهم ، لم يريدوها ، ولو لا إقدارهم عليها ، لم يقدروا عليها ، ولو لا إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم ، فله الفضل أولا وآخرا ، وهو الذي منّ بالسبب والمسبب.
[٢١٩] ثم قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ) ، الآية ، أي : يسألك ـ يا أيها الرسول ـ المؤمنون عن أحكام الخمر والميسر ، وقد كانا مستعملين في الجاهلية ، وأول الإسلام ، فكأنه وقع فيهما إشكال فلهذا سألوا عن حكمهما ، فأمر الله تعالى نبيه ، أن يبين لهم منافعهما ومضارهما ، ليكون ذلك مقدمة لتحريمهما ، وتحتيم تركهما. فأخبر أن إثمهما ومضارهما ، وما يصدر عنهما ، من ذهاب العقل والمال ، والصد عن ذكر الله ، وعن الصلاة والعداوة والبغضاء ـ أكبر مما يظنونه من نفعهما ، من كسب المال بالتجارة بالخمر ، وتحصيله بالقمار والطرب للنفوس عند تعاطيهما. وكان هذا البيان زاجرا للنفوس عنهما ، لأن العاقل يرجح ما ترجحت مصلحته ، ويجتنب ما ترجحت مضرته. ولكن لما كانوا قد ألفوهما ، وصعب التحتيم بتركهما أول وهلة ، قدم هذه الآية ، مقدمة للتحريم ، الذي ذكره في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) ، إلى قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ، وهذا من لطفه ورحمته وحكمته ، ولهذا لما نزلت ، قال عمر رضي الله عنه : انتهينا انتهينا. فأما الخمر ، فهو كل مسكر خامر العقل وغطاه ، من أي نوع كان ، وأما الميسر ، فهو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين ، من النرد ، والشطرنج ، وكل مغالبة قولية أو فعلية ، تعوض بعوض ، سوى مسابقة الخيل ، والإبل ، والسهام ، فإنها مباحة ، لكونها معينة على الجهاد ، فرخص فيها الشارع. وهذا سؤال عن مقدار ما ينفقونه من أموالهم ، فيسّر الله لهم الأمر ، وأمرهم أن ينفقوا العفو ، وهو المتيسر من أموالهم ، الذي لا تتعلق به حاجتهم وضرورتهم ، وهذا يرجع إلى كل أحد بحسبه ، من غني وفقير ومتوسط ، كل له قدرة على إنفاق ما عفا من ماله ، ولو شق تمرة. ولهذا أمر رسوله صلىاللهعليهوسلم ، أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وصدقاتهم ، ولا يكلفهم بما يشق عليهم. ذلك بأن الله تعالى لم يأمرنا بما أمرنا به حاجة منه لنا ، أو تكليفا لنا بما يشق ، بل أمرنا بما فيه سعادتنا ، وما يسهل علينا ، وما به النفع لنا ولإخواننا فيستحق على ذلك ، أتم الحمد. ولما بيّن تعالى هذا البيان الشافي ، وأطلع العباد على أسرار شرعه ، قال : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) ، أي : الدالات على الحق ، المحصلات للعلم النافع والفرقان. (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ، أي : لكي تستعملوا أفكاركم في أسرار شرعه ، وتعرفوا أن أوامره ، فيها مصالح الدنيا والآخرة ، وأيضا لكي تتفكروا في الدنيا وسرعة انقضائها ، وفي الآخرة وبقائها ، وأنها دار الجزاء فتعمروها.