فإنه لا يزال يكابد العذاب الشديد ، أبد الآباد. ويحتمل أن المعنى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، وأقوم خلقة ، يقدر على التصرف والأعمال الشديدة. ومع ذلك ، فإنه لم يشكر الله على هذه النعمة العظيمة ، بل بطر بالعافية وتجبّر على خالقه ، فحسب بجهله وظلمه أن هذه الحال ستدوم له ، وأن سلطان تصرفه لا ينعزل ، ولهذا قال :
[٥ ـ ٦] (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) (٥) ويطغى ويفتخر بما أنفق من الأموال على شهوات نفسه ، حيث (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) (٦) ، أي : كثيرا ، بعضه فوق بعض. وسمى الله الإنفاق في الشهوات والمعاصي إهلاكا ، لأنه لا ينتفع المنفق بما أنفق ، ولا يعود إليه من إنفاقه إلا الندم والخسارة ، والتعب والقلة ، لا كمن أنفق في مرضاة الله ، في سبيل الخير ، فإن هذا قد تاجر مع الله ، وربح أضعاف أضعاف ما أنفق. قال الله متوعدا هذا الذي افتخر بما أنفق في الشهوات :
[٧] (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) (٧) ، أي : أيظن في فعله هذا ، أن الله لا يراه ولا يحاسبه على الصغير والكبير؟ بل قد رآه الله ، وحفظ عليه أعماله ، ووكل به الكرام الكاتبين ، لكل ما عمله من خير وشر.
[٨ ـ ٩] ثم قرره بنعمه ، فقال : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) (٩) للجمال والبصر ، والنطق ، وغير ذلك من المنافع الضرورية فيها ، فهذه نعم الدنيا.
[١٠] ثم قال في نعم الدين : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١٠) ، أي : طريقي الخير والشر ، بينا له الهدى من الضلال ، والرشد من الغي. فهذه المنن الجزيلة ، تقتضي من العبد أن يقوم بحقوق الله ، ويشكره على نعمه ، وأن لا يستعين بها على معاصي الله ، ولكن هذا الإنسان لم يفعل ذلك.
[١١] (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (١١) ، أي : لم يقتحمها ويعبر عليها ، لأنه متبع لهواه. وهذه العقبة شديدة عليه ، ثم فسر هذه العقبة بقوله :
[١٢ ـ ١٣] (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ) (١٣) ، أي : فكها من الرق ، بعتقها أو مساعدتها على أداء كتابتها ، ومن باب أولى فكاك الأسير المسلم عند الكفار.
[١٤] (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) (١٤) ، أي : مجاعة شديدة ، بأن يطعم وقت الحاجة ، أشد الناس حاجة.
[١٥] (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) (١٥) جامعا بين كونه يتيما ، وفقيرا ذا قرابة.
[١٦] (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) (١٦) ، أي : قد لزق بالتراب من الحاجة والضرورة.
[١٧] (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) وعملوا الصالحات ، أي : آمنوا بقلوبهم بما يجب الإيمان به ، وعملوا الصالحات بجوارحهم. فدخل في هذا كل قول وفعل واجب أو مستحب. (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) على طاعة الله ، وعن معصيته ، وعلى أقداره المؤلمة بأن يحث بعضهم بعضا ، على الانقياد لذلك ، والإتيان به ، كاملا منشرحا به الصدر ، مطمئنة به النفس. (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) للخلق ، من إعطاء محتاجهم ، وتعليم جاهلهم ، والقيام بما يحتاجون إليه من جميع الوجوه ، ومساعدتهم على المصالح الدينية والدنيوية ، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه ، ويكره لهم ما يكره لنفسه.
[١٨] أولئك قاموا بهذه الأوصاف ، والذين وفقهم الله لاقتحام العقبة (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (١٨) لأنهم أدوا ما أمر الله به من حقوقه وحقوق عباده ، وتركوا ما نهوا عنه ، وهذا عنوان السعادة وعلامتها.
[١٩ ـ ٢٠] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) بأن نبذوا هذه الأمور وراء ظهورهم ، فلم يصدقوا بالله ، ولا آمنوا به ، ولا عملوا صالحا ، ولا رحموا عباد الله. (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) (٢٠) ، أي : مغلقة ، في عمد ممددة ، قد مدت من ورائها ، لئلا تنفتح أبوابها ، حتى يكونوا في ضيق ، وهمّ وشدّة. تم تفسير سورة البلد ـ والحمد لله.