حق ، ثم ارتدوا على أعقابهم ، ناكصين ناكثين ؛ لأنهم عرفوا الحق فرفضوه. ولأن من هذه الحالة وصفه ، فإن الله يعاقبه بالانتكاس ، وانقلاب القلب جزاء له ، إذ عرف الحق فتركه ، والباطل فآثره ، فولاه الله ما تولى لنفسه. فهؤلاء (عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) خالدين في اللعنة والعذاب (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) إذا جاءهم أمر الله لأن الله ، عمرهم ما يتذكر فيه من تذكر ، وجاءهم النذير. ثم إنه تعالى استثنى من هذا الوعيد ، التائبين من كفرهم وذنوبهم ، المصلحين لعيوبهم ، فإن الله يغفر لهم ما قدموه ، ويعفو عنهم ما أسلفوه.
[٨٩ ـ ٩١] ولكن من كفر وأصر على كفره ، ولم يزدد إلا كفرا حتى مات على كفره ، فهؤلاء هم الضالون عن طريق الهدى ، السالكون لطريق الشقاء ، وقد استحقوا بهذا العذاب الأليم ، فليس لهم ناصر من عذاب الله ، ولو بذلوا ملء الأرض ذهبا ليفتدوا به ، لم ينفعهم شيئا ، فعياذا بالله من الكفر وفروعه.
[٩٢] يعني : لن تنالوا وتدركوا البر ، الذي هو اسم جامع للخيرات ، وهو الطريق الموصل إلى الجنة ، حتى تنفقوا مما تحبون ، من أطيب أموالكم وأزكاها. فإن النفقة من الطيب المحبوب للنفوس ، من أكبر الأدلة على سماحة النفس ، واتصافها بمكارم الأخلاق ، ورحمتها ورقتها. ومن أول الدلائل على محبة الله ، تقديم محبته على محبة الأموال ، التي جبلت النفوس على قوة التعلق بها ، فمن آثر محبة الله على محبة نفسه ، فقد بلغ الذروة العليا من الكمال ، وكذلك من أنفق الطيبات ، وأحسن إلى عباد الله ، أحسن الله إليه ووفقه أعمالا وأخلاقا ، لا تحصل بدون هذه الحالة. وأيضا فمن قام بهذه النفقة على هذا الوجه ، كان قيامه ببقية الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة ، من طريق الأولى والأحرى ، ومع أن النفقة من الطيبات ، هي أكمل الحالات ، فمهما أنفق العبد من نفقة قليلة أو كثيرة ، من طيب أو غيره ، فإن الله به عليم. وسيجزي كل منفق ، بحسب عمله ، سيجزيه في الدنيا بالخلف العاجل ، وفي الآخرة بالنعيم الآجل.
[٩٣ ـ ٩٤] من جملة الأمور التي قدح فيها اليهود بنبوة عيسى ومحمد صلّى الله عليهما وسلّم ، أنهم زعموا أن النسخ باطل ، وأنه لا يمكن أن يأتي نبي يخالف النبي الذي قبله. فكذبهم الله بأمر يعرفونه ، فإنهم يعترفون بأن جميع الطعام ـ قبل نزول التوراة ـ كان حلالا لبني إسرائيل ، إلا أشياء يسيرة حرمها إسرائيل ، وهو : يعقوب عليهالسلام ـ على نفسه ومنعها إياه لمرض أصابه. ثم إن التوراة فيها من التحريمات التي نسخت ، ما كان حلالا قبل ذلك شيء كثير. قل لهم ـ إن أنكروا ذلك ـ : (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بزعمكم أنه لا نسخ ولا تحليل ولا تحريم. وهذا من أبلغ الحجج ، أن يحتج على الإنسان بأمر يقوله ويعترف به ولا ينكره ، فإن انقاد للحق ، فهو الواجب ، وإن أبى ولم ينقد بعد هذا البيان ، تبين كذبه وافتراؤه وظلمه وبطلان ما هو عليه ، وهو الواقع من اليهود.
[٩٥] أي : قل صدق الله في كل ما قاله ، ومن أصدق من الله قيلا وحديثا ، وقد بيّن في هذه الآيات ، من الأدلة على صحة رسالة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وبراهين دعوته ، وبطلان ما عليه المنحرفون من أهل الكتاب ، الذين كذبوا رسوله ،