وردوا دعوته ، فقد صدق الله في ذلك ، وأقنع عباده على ذلك ، ببراهين وحجج ، تتصدع لها الجبال ، وتخضع لها الرجال. فتعين عند ذلك على الناس كلهم ، اتباع ملة إبراهيم ، من توحيد الله وحده لا شريك له ، وتصديق كل رسول أرسله الله ، وكل كتاب أنزله ، والإعراض عن الأديان الباطلة المنحرفة. فإن إبراهيم كان معرضا عن كل ما يخالف التوحيد ، متبرئا من الشرك وأهله.
[٩٦ ـ ٩٧] يخبر تعالى بعظمة بيته الحرام ، وأنه أول البيوت التي وضعها الله في الأرض لعبادته ، وإقامة ذكره ، وأن فيه من البركات ، وأنواع الهدايات ، وتنوع المصالح والمنافع للعالمين ـ شيء كثير ، وفضل غزير ، وأن فيه آيات بينات ، تذكر بمقامات إبراهيم الخليل ، وتنقلاته في الحج ، ومن بعده تذكر بمقامات سيد الرسل وإمامهم. وفيه الحرم الذي من دخله كان آمنا قدرا ، مؤمنا شرعا ودينا. فلما احتوى على هذه الأمور التي هذه مجملاتها ، وتكثر تفصيلاتها ـ أوجب الله حجه على المكلفين المستطيعين إليه سبيلا ، وهو الذي يقدر على الوصول إليه بأي مركوب يناسبه ، وزاد يتزوده ، ولهذا أتى بهذا اللفظ الذي يمكن تطبيقه على جميع المركوبات الحادثة ، والتي ستحدث. وهذا من آيات القرآن ، حيث كانت أحكامه صالحة لكل زمان وكل حال ، ولا يمكن الصلاح التام بدونها ، فمن أذعن لذلك وقام به ، فهو من المهتدين المؤمنين ، ومن كفر ، فلم يلتزم حج بيته ، فهو خارج عن الدين ، ومن كفر ، فإن الله غني عن العالمين.
[٩٨ ـ ٩٩] لما أقام فيما تقدم ، الحجج على أهل الكتاب ـ فمع أنهم قبل ذلك ، يعرفون النبي صلىاللهعليهوسلم كما يعرفون أبناءهم ـ وبّخ المعاندين منهم بكفرهم بآيات الله ، وصدهم الخلق عن سبيل الله ، لأن عوامهم تبع لعلمائهم ، والله تعالى يعلم أحوالهم وسيجازيهم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه.
[١٠٠ ـ ١٠١] لما أقام الحجج على أهل الكتاب ، ووبخهم بكفرهم وعنادهم ، حذر عباده المؤمنين ، من الاغترار بهم ، وبين لهم أن هذا الفريق منهم ، حريصون على إضراركم وردكم إلى الكفر بعد الإيمان. ولكن ـ ولله الحمد ـ أنتم ـ يا معشر المؤمنين ـ بعد ما منّ الله عليكم بالدين ، ورأيتم آياته ومحاسنه ومناقبه وفضائله ، وفيكم رسول الله الذي أرشدكم إلى جميع مصالحكم ، واعتصمتم بالله وبحبله ، ـ الذي هو دينه ـ يستحيل أن يردوكم عن دينكم ، لأن الدين الذي بني على هذه الأصول والدعائم الثابتة الأساس ، المشرقة الأنوار ، تنجذب إليه الأفئدة ، ويأخذ بمجامع القلوب ، ويوصل العباد إلى أجلّ غاية ، وأفضل مطلوب. (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) ، أي : يتوكل عليه ، ويحتمي بحماه ، (فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، وهذا فيه الحث على الاعتصام به ، وأنه السبيل إلى السلامة والهداية.
[١٠٢ ـ ١٠٥] هذه الآيات فيها حث الله عباده المؤمنين أن يقوموا بشكر نعمه العظيمة ، بأن يتقوه حق تقواه ، وأن يقوموا بطاعته ، وترك معصيته ، مخلصين له بذلك ، وأن يقيموا دينهم ، ويستمسكوا بحبله الذي أوصله إليهم ، وجعله السبب بينهم وبينه ، وهو دينه وكتابه ، والاجتماع على ذلك وعدم التفرق ، وأن يستديموا ذلك إلى الممات. وذكّرهم ما هم عليه قبل هذه النعمة ، وهو : أنهم كانوا أعداء متفرقين ، فجمعهم بهذا الدين ، وألف بين قلوبهم ،