المتثاقلون ، فلا يعبأ بهم ، خرجوا أو قعدوا. فيكون هذا ، نظير قوله تعالى : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) (١٠٧) إلى آخر الآيات. وقوله : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ). وقيل : إن معنى الآية : فليقاتل المقاتل والمجاهد للكفار ، الّذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة. فيكون على هذا الوجه «الّذين» في محل نصب على المفعولية. (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) بأن يكون جهادا ، قد أمر الله به ورسوله ، ويكون العبد مخلصا لله فيه ، قاصدا وجه الله. (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) زيادة في إيمانه ودينه ، وغنيمة ، وثناء حسنا ، وثواب المجاهدين في سبيل الله الّذين أعد الله لهم في الجنة ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
[٧٥] هذا حث من الله لعباده المؤمنين ، وتهييج لهم على القتال في سبيله وأن ذلك ، قد تعين عليهم ، وتوجه اللوم العظيم عليهم بتركه فقال : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) والحال أن المستضعفين من الرجال ، والنساء ، والولدان ، الّذين لا يستطيعون حيلة ، ولا يهتدون سبيلا ومع هذا ، فقد نالهم أعظم الظلم من أعدائهم. فهم يدعون الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها لأنفسهم ، بالكفر ، والشرك ، وللمؤمنين بالأذى ، والصد عن سبيل الله ، ومنعهم من الدعوة لدينهم ، والهجرة. ويدعون الله ، أن يجعل لهم وليا ونصيرا ، يستنقذهم من هذه القرية الظالم أهلها. فصار جهادكم على هذا الوجه ، من باب القتال ، والذب عن عيلاتكم وأولادكم ، ومحارمكم ، لأن باب الجهاد ، الذي هو الطمع في الكفار فإنه ، وإن كان فيه فضل عظيم ، ويلام المتخلف عنه أعظم اللوم. فالجهاد الذي فيه استنقاذ المستضعفين منكم ، أعظم أجرا ، وأكبر فائدة بحيث يكون من باب دفع الأعداء.
[٧٦] ثم قال : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية. هذا إخبار من الله بأن المؤمنين يقاتلون في سبيله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) الذي هو الشيطان. في ضمن ذلك عدة فوائد : منها : أنه بحسب إيمان العبد ، يكون جهاده في سبيل الله ، وإخلاصه ، ومتابعته. فالجهاد في سبيل الله ، من آثار الإيمان ، ومقتضياته ولوازمه. كما أن القتال في سبيل الطاغوت ، من شعب الكفر ومقتضياته. ومنها : أن الذي يقاتل في سبيل الله ، ينبغي له ، ويحسن منه ، من الصبر والجلد ، ما لا يقوم به غيره. فإذا كان أولياء الشيطان ، يصبرون ويقاتلون ، وهم على باطل ، فأهل الحق أولى بذلك ، كما قال تعالى في هذا المعنى : (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) الآية. ومنها : أن الذي يقاتل في سبيل الله ، معتمدا على ركن وثيق ، وهو الحق ، والتوكل على الله. فصاحب القوة ، والركن ، يطلب منه ، من الصبر والثبات ، والنشاط ما لا يطلب ممن يقاتل ، عن الباطل ، الذي لا حقيقة له ، ولا عاقبة حميدة. فلهذا قال تعالى : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً). والكيد : سلوك الطرق الخفية ، الذي فيه إلحاق الضرر بالعدو. فالشيطان ، وإن بلغ مكره مهما بلغ ، فإنه في غاية الضعف ، الذي لا يقوم لأدنى شيء من الحق ، ولا لكيد الله لعباده المؤمنين.
[٧٧] كان المسلمون ـ إذ كانوا بمكة ـ مأمورين بالصلاة والزكاة ، أي : مواساة الفقراء ، لا الزكاة المعروفة ، ذات النصب والشروط ، فإنها لم تفرض إلا بالمدينة ، ولم يؤمروا بجهاد الأعداء ، لعدة فوائد : منها : أن من حكمة الباري تعالى ، أن يشرع لعباده ، الشرائع ، على وجه لا يشق عليهم ؛ ويبدأ بالأهم ، والأسهل فالأسهل. ومنها : أنه لو فرض عليهم القتال ـ مع قلة عددهم وعددهم ، وكثرة أعدائهم ـ لأدّى ذلك إلى اضمحلال الإسلام. فروعي جانب المصلحة العظمى ، على ما دونها ، ولغير ذلك من الحكم. وكان بعض المؤمنين ، يودون أن لو فرض عليهم القتال في تلك الحال ، غير اللائق فيها ذلك. وإنما اللائق فيها ، القيام بما أمروا بها في ذلك الوقت ، من التوحيد ، والصلاة ، والزكاة ونحو ذلك كما قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً). فلما هاجروا إلى المدينة ، وقوي الإسلام ، كتب عليهم القتال ، في وقته المناسب لذلك. فقال فريق من الّذين يستعجلون القتال قبل