ذلك ، خوفا من الناس ، وضعفا وخورا : (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ)؟ وفي هذا تضجرهم ، واعتراضهم على الله. وكان الذي ينبغي لهم ، ضد هذه الحال ـ التسليم لأمر الله ، والصبر على أوامره. فعكسوا الأمر المطلوب منهم ، فقالوا : (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي : هلّا أخرت فرض القتال ، مدة متأخرة عن الوقت الحاضر وهذه الحال ، كثيرا ما تعرض لمن هو غير رزين ، واستعجل في الأمور قبل وقتها. فالغالب عليه ، أنه لا يصبر عليها وقت حلولها ، ولا ينوء بحملها ، بل يكون قليل الصبر. ثم إن الله وعظهم عن هذه الحال ، التي فيها التخلف عن القتال فقال : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) أي : التمتع بلذات الدنيا وراحتها ، قليل. فتحمل الأثقال في طاعة الله ، في المدة القصيرة ، مما يسهل على النفوس ويخف عليها. لأنها ، إذا علمت أن المشقة التي تنالها ، لا يطول لبثها ، هان عليها ذلك. فكيف إذا وازنت بين الدنيا والآخرة ، وأن الآخرة خير منها ، في ذاتها ، ولذاتها ، وزمانها : فذاتها ـ كما ذكر النبي صلىاللهعليهوسلم في الحديث الثابت عنه ـ «أن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها». ولذاتها ، صافية عن المكدرات ، بل كل ما خطر بالبال ، أو دار في الفكر ، من تصور لذة ـ فلذة الجنة فوق ذلك كما قال تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ). وقال الله على لسان نبيه : «أعددت لعبادي الصالحين ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر». وأما لذات الدنيا ، فإنها مشوبة بأنواع التنغيص ، الذي لو قوبل بين لذاتها ، وما يقترن بها من أنواع الآلام ، والهموم والغموم ، لم يكن لذلك نسبة بوجه من الوجوه. وأما زمانها ، فإن الدنيا منقضية ، وعمر الإنسان ـ بالنسبة إلى الدنيا ـ شيء يسير. وأما الآخرة ، فإنها دائمة النعيم ، وأهلها خالدون فيها. فإذا فكّر العاقل في هاتين الدارين ، وتصور حقيقتهما حق التصور ، عرف ما هو أحق بالإيثار ، والسعي له ، والاجتهاد لطلبه ، ولهذا قال : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) أي : اتقى الشرك ، وسائر المحرمات. (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي : فسعيكم للدار الآخرة ، ستجدونه كاملا موفرا ، غير منقوص منه شيئا.
[٧٨] ثم أخبر أنه لا يغني حذر عن قدر ، وأن القاعد لا يدفع عنه قعوده شيئا فقال : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) أي : في أي زمان ، وأي مكان. (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أي : قصور منيعة ، ومنازل رفيعة. وكل هذا حث على الجهاد في سبيل الله ، تارة بالترغيب في فضله وثوابه ، وتارة بالترهيب من عقوبة تركه ، وتارة بالإخبار أنه لا ينفع القاعدين قعودهم ، وتارة بتسهيل الطريق في ذلك ، وقصرها. ثم قال : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) الآية. يخبر تعالى ، عن الّذين لا يعلمون ، المعرضين عمّا جاءت به الرسل ، المعارضين لهم : أنهم إذا جاءتهم حسنة ، أي : خصب وكثرة أموال ، وتوفر أولاد وصحة ، قالوا : (هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وأنهم ، إن أصابتهم سيئة أي : جدب ، وفقر ، ومرض ، وموت أولاد وأحباب قالوا : (هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) أي : بسبب ما جئتنا به يا محمد. تطيروا برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، كما تطير أمثالهم برسل الله ، كما أخبر الله عن قوم فرعون أنهم إذا (جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ). وقال قوم صالح : (اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ). وقال قوم ياسين لرسلهم : (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ