كذا ، سبب للعقوبة ومقتضى لها. وقد قام الدليل على ذكر الموانع. فبعضها بالإجماع ، وبعضها بالنص. فالتوبة ، مانع بالإجماع. والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة ، التي لا مدفع لها. والحسنات العظيمة الماحية ، مانعة. والمصائب الكبار المكفرة ، مانعة. وإقامة الحدود في الدنيا ، مانع بالنص. ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص ، فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين. ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات ، اعتبارا لمقتضى العقاب ومانعه ، وإعمالا لأرجحها. قالوا : وعلى هذا ، بناء مصالح الدارين ومفاسدهما. وعلى هذا ، بناء الأحكام الشرعية ، والأحكام القدرية ، وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود ، وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها ، خلقا وأمرا. وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه ، ويقاومه ، ويكون الحكم للأغلب منهما. فالقوة ، مقتضية للصحة والعافية. وفساد الأخلاق وبغيها ، مانع من عمل الطبيعة. وفعل القوة ، والحكم ، للغالب منهما وكذلك قوى الأدوية والأمراض. والعبد يكون فيه مقتض للصحة ، ومقتض للعطب. وأحدهما ، يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه. فإذا ترجح عليه وقهره ، كان التأثير له. ومن هنا يعلم ، انقسام الخلق إلى من يدخل الجنة ، ولا يدخل النار ، وعكسه. ومن يدخل النار ثم يخرج منها ، ويكون مكثه فيها ، بحسب ما فيه من مقتضى المكث ، في سرعة الخروج ، وبطئه. ومن له بصيرة منورة ، يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه ، من أمر المعاد وتفاصيله ، حتى كأنه يشاهده رأي العين. ويعلم أن هذا مقتضى إلهيته سبحانه ، وربوبيته ، وعزته ، وحكمته ، وأنه مستحيل عليه خلاف ذلك. ونسبة ذلك إليه ، نسبة ما لا يليق به إليه. فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته ، كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره. وهذا يقين الإيمان ، وهو الذي يحرق السيئات ، كما تحرق النار الحطب. وصاحب هذا المقام من الإيمان ، يستحيل إصراره على السيئات ، وإن وقعت منه وكثرت ، فإن ما معه من نور الإيمان ، يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله في عدد أنفاسه. وهذا من أحب الخلق إلى الله. انتهى كلامه ، قدس الله روحه ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.
[٩٤] يأمر تعالى عباده المؤمنين ، إذا خرجوا جهادا في سبيله ، وابتغاء مرضاته ـ أن يتبينوا ، ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة. فإن الأمور قسمان : واضحة وغير واضحة. فالواضحة البينة ، لا تحتاج إلى تثبت وتبين ، لأن ذلك ، تحصيل حاصل. وأما الأمور المشكلة غير الواضحة ، فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين ، هل يقدم عليها أم لا؟ فإن التثبت في هذه الأمور ، يحصل فيه من الفوائد الكثيرة ، والكف عن شرور عظيمة ، فإنه به يعرف دين العبد ، وعقله ، ورزانته. بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها ، قبل أن يتبين له حكمها ، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي. كما جرى لهؤلاء الّذين عاتبهم الله في الآية ، لما لم يتثبتوا ، وقتلوا من سلّم عليهم ، وكان معه غنيمة له أو مال غيره ، ظنا أنه يستكفي بذلك قتلهم ، وكان هذا خطأ في نفس الأمر ، فلهذا عاتبهم بقوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) أي : فلا يحملنكم العرض الفاني القليل ، على ارتكاب ما لا ينبغي فيفوتكم ما عند الله من الثواب الجزيل الباقي ، فما عند الله خير وأبقى. وفي