فإن الورثة يرثون ما ترك الميت. فالدية داخلة فيما ترك ، وللذرية تفاصيل كثيرة مذكورة في كتب الفقه. وقوله : (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أي : يتصدق ورثة القتيل بالعفو عن الدية ، فإنها تسقط. وفي ذلك حث لهم على العفو ، لأن الله سماها صدقة ، والصدقة مطلوبة في كل وقت. (فَإِنْ كانَ) المقتول (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) أي : من كفار حربيين (وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي : وليس عليكم لأهله دية ، لعدم احترامهم في دمائهم وأموالهم. (وَإِنْ كانَ) المقتول (مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وذلك لاحترام أهله بما لهم من العهد والميثاق. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) رقبة ولا ثمنها ، بأن كان معسرا بذلك ، ليس عنده ما يفضل عن مؤنته وحوائجه الأصلية ، شيء يفي بالرقبة. (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) أي : لا يفطر بينهما من غير عذر. فإن أفطر لعذر ، فإن العذر لا يقطع التتابع ، كالمرض ، والحيض ونحوهما. وإن كان لغير عذر ، انقطع التتابع ، ووجب عليه استئناف الصوم. (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) أي : هذه الكفارات التي أوجبها الله على القاتل ، توبة من الله على عباده ، ورحمة بهم ، وتكفيرا لما عساه أن يحصل منهم ، من تقصير ، وعدم احتراز ، كما هو الواقع كثيرا للقاتل خطأ. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي : كامل العلم ، كامل الحكمة ، لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ، ولا أكبر ، في أي وقت كان ، وأي محل كان. ولا يخرج عن حكمته من المخلوقات والشرائع شيء. بل كل ما خلقه وشرعه ، فهو متضمن لغاية الحكمة. ومن علمه وحكمته ، أن أوجب على القاتل ، كفارة مناسبة لما صدر منه. فإنه تسبب لإعدام نفس محترمة ، وأخرجها من الوجود إلى العدم. فناسب أن يعتق رقبة ، ويخرجها من رق العبودية للخلق ، إلى الحرية التامة. فإن لم يجد هذه الرقبة ، صام شهرين متتابعين. فأخرج نفسه من رق الشهوات واللذات الحسية القاطعة للعبد عن سعادته الأبدية ، إلى التعبد لله تعالى بتركها ، تقربا إلى الله. ومدها تعالى بهذه المدة الكثيرة الشاقة في عددها ، ووجوب التتابع فيها ، ولم يشرع الإطعام ، في هذه المواضع ، لعدم المناسبة. بخلاف الظهار ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ومن حكمته ، أن أوجب في القتل ، الدية ، ولو كان خطأ ، لتكون رادعة ، وكافة عن كثير من القتل ، باستعمال الأسباب العاصمة عن ذلك. ومن حكمته أن أوجبت على العاقلة في قتل الخطأ ، بإجماع العلماء ، لكون القاتل ، لم يذنب فيشق عليه أن يحمل هذه الدية الباهظة. فناسب أن يقوم بذلك ، من بينه وبينهم المعاونة والمناصرة ، والمساعدة على تحصيل المصالح ، وكف المفاسد. ولعل ذلك من أسباب منعهم ، لمن يعقلون عنه من القتل ، حذار تحميلهم. ويخف عليهم بسبب توزيعه عليهم ، بقدر أحوالهم وطاقتهم. وخففت أيضا بتأجيلها عليهم ثلاث سنين. ومن حكمته وعلمه ، أن جبر أهل القتيل عن مصيبتهم ، بالدية التي أوجبها على أولياء القاتل.
[٩٣] تقدم أن الله أخبر أنه لا يصدر قتل المؤمن من المؤمن ، وأن القتل من الكفر العملي. وذكر هنا ، وعيد القاتل عمدا ، وعيدا ترجف له القلوب ، وتنصدع له الأفئدة ، وينزعج منه أولو العقل. فلم يرد في أنواع الكبائر ، أعظم من هذا الوعيد ، بل ولا مثله. ألا : وهو الإخبار ، بأن جزاءه جهنم. أي : فهذا الذنب العظيم ، قد انتهض وحده ، أن يجازى صاحبه بجهنم ، بما فيها من العذاب العظيم ، والخزي المهين ، وسخط الجبار وفوات الفوز والفلاح ، وحصول الخيبة والخسار. فعياذا بالله ، من كل سبب يبعد عن رحمته. وهذا الوعيد ، له حكم أمثاله من نصوص الوعيد ، على بعض الكبائر والمعاصي ، بالخلود في النار ، أو حرمان الجنة. وقد اختلف الأئمة رحمهمالله ، في تأويلها ، مع اتفاقهم على بطلان قول الخوارج والمعتزلة ، الّذين يخلدونهم في النار ، ولو كانوا موحدين. والصواب في تأويلها ، ما قاله الإمام المحقق شمس الدين بن القيم رحمهالله في «المدارج» فإنه ـ بعد ما ذكر تأويلات الأئمة في ذلك وانتقدها قال : وقالت فرقة : إن هذه النصوص وأمثالها ، مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة ، ولا يلزم من وجود مقتضى الحكم وجوده ، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه. وغاية هذه النصوص ، الإعلام بأن