(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ) أي : من هؤلاء المنافقين. (يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ) أي : خوفا منكم (وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها) أي : لا يزالون مقيمين على كفرهم ونفاقهم. وكلما عرض لهم عارض من عوارض الفتن ، أعماهم ، ونكسهم على رؤوسهم ، وازداد كفرهم ونفاقهم. وهؤلاء في الصورة ـ كالفرقة الثانية ، وفي الحقيقة ، مخالفة لها. فإن الفرقة الثانية ، تركوا قتال المؤمنين ، احتراما لهم ، لا خوفا على أنفسهم. وأما هذه الفرقة ، فتركوه خوفا ، لا احتراما. بل لو وجدوا فرصة في قتال المؤمنين ، فإنهم سيقدمون لانتهازها. فهؤلاء إن لم يتبين منهم ، ويتضح اتضاحا عظيما ، اعتزال المؤمنين وترك قتالهم ، فإنهم يقاتلون. ولهذا قال : (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أي : المسالمة والموادعة. (وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي : حجة بينة واضحة ، لكونهم معتدين ظالمين لكم تاركين للمسالمة ، فلا يلوموا إلا أنفسهم.
[٩٢] وهذه الصيغة من صيغ الامتناع. أي : يمتنع ويستحيل ، أن يصدر من مؤمن قتل مؤمن أي : متعمدا. وفي هذا الإخبار بشدة تحريمه ، وأنه مناف للإيمان أشد منافاة. وإنما يصدر ذلك ، إما من كافر ، أو من فاسق ، قد نقص إيمانه نقصا عظيما ، ويخشى عليه ما هو أكبر من ذلك. فإن الإيمان الصحيح ، يمنع المؤمن من قتل أخيه ، الذي قد عقد الله بينه وبينه ، الأخوة الإيمانية ، التي من مقتضاها ، محبته وموالاته ، وإزالة ما يعرض لأخيه من الأذى ، وأي أذى أشد من القتل؟ وهذا يصدق قوله صلىاللهعليهوسلم : «لا ترجعوا بعدي كفارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض». فعلم أن القتل من الكفر العملي ، وأكبر الكبائر بعد الشرك بالله. ولما كان قوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً) لفظا عاما ، لجميع الأحوال ، وأنه لا يصدر منه قتل أخيه ، بوجه من الوجوه ، استثنى تعالى قتل الخطأ فقال : (إِلَّا خَطَأً) فإن المخطئ الذي لا يقصد القتل ، غير آثم ، ولا مجترئ على محارم الله. ولكنه لما كان قد فعل فعلا شنيعا ، وصورته كافية في قبحه ، وإن لم يقصده ـ أمر تعالى بالكفارة والدية فقال : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) سواء كان القاتل ذكرا أو أنثى ، حرا أو عبدا ، صغيرا أو كبيرا ، عاقلا أو مجنونا ، مسلما أو كافرا ، كما يفيده لفظ «من» الدالة على العموم ، وهذا من أسرار الإتيان ب «من» في هذا الموضع. فإن سياق الكلام يقتضي أن يقول فإن قتله ، ولكن هذا لفظ لا يشمل ما شمله «من». وسواء كان المقتول ذكرا أو أنثى ، صغيرا أو كبيرا ، كما يفيده التنكير في سياق الشرط. فإن على القاتل (تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) كفارة لذلك ، تكون في ماله ، ويشمل ذلك الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، والصحيح والمعيب ، في قول بعض العلماء. ولكن الحكمة ، تقتضي أن لا يجزىء عتق المعيب في الكفارة. لأن المقصود بالعتق ، نفع العتيق ، وملكه منافع نفسه. فإذا كان يضيع بعتقه ، وبقاؤه في الرق أنفع له ، فإنه لا يجزىء عتقه. مع أن في قوله : (تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) ما يدل على ذلك. فإن التحرير : تخليص من استحقت منافعه لغيره ، أن تكون له. فإذا لم يكن فيه منافع ، لم يتصور وجود التحرير. فتأمل ذلك ، فإنه واضح. وأما الدية ، فإنها تجب على عاقلة القاتل ، في الخطأ ، وشبه العمد. (مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) جبرا لقلوبهم. والمراد بأهله هنا ، هم ورثته ،