بأن الله لم يخلق خلقه عبثا ، يحيون ثم يموتون. وأما الدليل السمعي ، فهو إخبار أصدق الصادقين بذلك ، بل إقسامه عليه ، ولهذا قال : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً). كذلك أمر رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يقسم عليه في غير موضع من القرآن ، كقوله تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧). وفي قوله : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) ، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) إخبار بأن حديثه وأخباره ، وأقواله في أعلى مراتب الصدق ، بل أعلاها. فكل ما قيل في العقائد والعلوم والأعمال ، مما يناقض ما أخبر الله به ، فهو باطل ، لمناقضته للخبر الصادق اليقين ، فلا يمكن أن يكون حقا.
[٨٨] المراد بالمنافقين المذكورين في هذه الآيات : المنافقون المظهرون إسلامهم ، ولم يهاجروا مع كفرهم. وكان قد وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم ، فيهم اشتباه. فبعضهم تحرج عن قتالهم ، وقطع موالاتهم ، بسبب ما أظهروه من الإيمان. وبعضهم علم أحوالهم ، بقرائن أفعالهم ، فحكم بكفرهم.
[٨٩] فأخبر عنهم تعالى ، أنه لا ينبغي لكم ، أن تشتبهوا فيهم ولا تشكوا. بل أمرهم واضح غير مشكل ، إنهم منافقون ، قد تكرر كفرهم ، وودوا ـ مع ذلك ـ كفركم ، وأن تكونوا مثلهم. فإذا تحققتم ذلك منهم (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) وهذا يستلزم عدم محبتهم ، لأن الولاية فرع المحبة. ويستلزم أيضا ، بغضهم ، وعداوتهم ، لأن النهي عن الشيء ، أمر بضده. وهذا الأمر مؤقت بهجرتهم. فإذا هاجروا ، جرى عليهم ، ما جرى على المسلمين ، كما كان النبي صلىاللهعليهوسلم يجري أحكام الإسلام على كل من كان معه ، وهاجر إليه ، سواء كان مؤمنا حقيقة ، أو ظاهر الإيمان. وأنهم إن لم يهاجروا ، وتولوا عنها (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أي : في أي وقت ، وأي محل كان. وهذا من جملة الأدلة الدالة ، على نسخ القتال في الأشهر الحرم ، كما هو قول جمهور العلماء. والمنازعون يقولون : هذه نصوص مطلقة ، محمولة على تقييد التحريم في الأشهر الحرم.
[٩٠] ثم إن الله استثنى من قتال هؤلاء المنافقين ثلاث فرق : فرقتين أمر بتركهم ، وحتّم على ذلك. إحداهما ، من يصل إلى قوم ، بينهم وبين المسلمين ، عهد وميثاق بترك القتال ، فينضم إليهم ، فيكون له حكمهم ، في حقن الدم والمال. والفرقة الثانية قوم (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) أي : بقوا ، لا تسمح أنفسهم بقتالكم ، ولا بقتال قومهم ، وأحبوا ترك قتال الفريقين. فهؤلاء أيضا ، أمر بتركهم ، وذكر الحكمة في ذلك بقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ) فإن الأمور الممكنة ثلاثة أقسام : إما أن يكونوا معكم ، ويقاتلوا أعداءكم. وهذا متعذر من هؤلاء. فدار الأمر ، بين قتالكم مع قومهم ، وبين ترك قتال الفريقين ، وهو أهون الأمرين عليكم ، والله قادر على تسليطهم عليكم. فاقبلوا العافية ، واحمدوا ربكم الذي كف أيديهم عنكم ، مع التمكن من ذلك. فهؤلاء (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً).
[٩١] الفرقة الثالثة : قوم يريدون مصلحة أنفسهم ، بقطع النظر عن احترامكم. وهم الّذين قال الله فيهم :