جاهل ، فلا تأمره نفسه إلا بالشر. فإذا لجأ إلى ربه ، واعتصم به ، واجتهد في ذلك ، لطف به ربه ، ووفقه لكل خير ، وعصمه من الشيطان الرجيم.
[٨٤] هذه الحالة ، أفضل أحوال العبد ، أن يجتهد في نفسه على امتثال أمر الله ، من الجهاد وغيره ، ويحرض غيره عليه. وقد يعدم في العبد الأمران أو أحدهما ، فلهذا قال لرسوله : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) أي : ليس لك قدرة على غير نفسك ، فلن تكلف بفعل غيرك. (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) على القتال ، وهذا يشمل كل أمر يحصل به نشاط المؤمنين ، وقوة قلوبهم ، من تقويتهم ، والإخبار بضعف الأعداء ، وفشلهم ، وبما أعد للمقاتلين من الثواب ، وما على المتخلفين من العقاب. فهذا وأمثاله ، كله يدخل في التحريض على القتال. (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : بقتالكم في سبيل الله ، وتحريض بعضكم بعضا. (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) أي : قوة وعزة (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) بالمذنب في نفسه وتنكيلا لغيره ، فلو شاء تعالى ، لانتصر من الكفار بقوته ، ولم يجعل لهم باقية. ولكن ـ من حكمته ـ يبلو بعض عباده ببعض ، ليقوم سوق الجهاد ، ويحصل الإيمان النافع ، إيمان الاختيار ، لا إيمان الاضطرار والقهر ، الذي لا يفيد شيئا.
[٨٥] المراد بالشفاعة هنا : المعاونة على أمر من الأمور. فمن شفع غيره ، وقام معه على أمر من أمور الخير ـ ومنه الشفاعة للمظلومين لمن ظلمهم ـ كان له نصيب من شفاعته ، بحسب سعيه وعمله ، ونفعه ، ولا ينقص من أجر الأصيل أو المباشر شيء. ومن عاون غيره على أمر من الشر ، كان عليه كفل من الإثم بحسب ما قام به وعاون عليه.
ففي هذا الحث العظيم على التعاون على البر والتقوى ، والزجر العظيم عن التعاون على الإثم والعدوان. وقرر ذلك بقوله : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أي : شاهدا حفيظا ، حسيبا على هذه الأعمال ، فيجازي كلا ، ما يستحقه.
[٨٦] التحية هي : اللفظ الصادر من أحد المتلاقيين ، على وجه الإكرام والدعاء ، وما يقترن بذلك اللفظ ، من البشاشة ونحوها. وأعلى أنواع التحية ، ما ورد به الشرع ، من السّلام ابتداء وردا. فأمر تعالى ، المؤمنين أنهم ، إذا حيوا بأي تحية كانت ، أن يردوها بأحسن منها ، لفظا ، وبشاشة ، أو مثلها في ذلك. ومفهوم ذلك ، النهي عن عدم الرد بالكلية ، أو ردها بدونها. ويؤخذ من الآية الكريمة ، الحث على ابتداء السّلام والتحية ، من وجهين : أحدهما : أن الله أمر بردها ، بأحسن منها ، أو مثلها ، وذلك يستلزم أن التحية ، مطلوبة شرعا. والثاني : ما يستفاد من أفعل التفضيل ، وهو «أحسن» الدال على مشاركة التحية وردها ، بالحسن ، كما هو الأصل في ذلك. ويستثنى من عموم الآية الكريمة ، من حيا بحال غير مأمور بها ، ك «على مشتغل بقراءة ، أو استماع خطبة ، أو مصل ونحو ذلك» فإنه لا يطلب إجابة تحيته. وكذلك يستثنى من ذلك ، من أمر الشارع بهجره ، وعدم تحيته ، وهو العاصي غير التائب ، الذي يرتدع بالهجر ، فإنه يهجر ، ولا يحيا ، ولا ترد تحيته ، وذلك لمعارضة المصلحة الكبرى. ويدخل في رد التحية ، كل تحية اعتادها الناس ، وهي غير محظورة شرعا ، فإنه مأمور بردها وبأحسن منها. ثم وعد تعالى وتوعد ، على فعل الحسنات والسيئات بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) فيحفظ على العباد أعمالهم ، حسنها ، وسيئها ، صغيرها ، وكبيرها ، ثم يجازيهم بما اقتضاه فضله وعدله ، وحكمه المحمود.
[٨٧] يخبر تعالى ، عن انفراده بالوحدانية ، وأنه لا معبود ولا مألوه إلا هو ، لكماله في ذاته وأوصافه ، ولكونه المنفرد بالخلق والتدبير ، والنعم الظاهرة والباطنة. وذلك يستلزم الأمر بعبادته ، والتقرب إليه بجميع أنواع العبودية. لكونه المستحق لذلك وحده ، والمجازي للعباد ، بما قاموا به من عبوديته ، أو تركوه منها. ولذلك أقسم على وقوع محل الجزاء ـ وهو يوم القيامة ـ فقال : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) أي : أولكم وآخركم ، في مقام واحد. (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) أي : لا شك ولا شبهة ، بوجه من الوجوه ، بالدليل العقلي ، والدليل السمعي. فالدليل العقلي ، ما نشاهده من إحياء الأرض بعد موتها ، ومن وجود النشأة الأولى ، التي وقوع الثانية ، أولى منها بالإمكان. ومن الحكمة التي يجزم ،