ورسوله وزجر عنها.
[٩٦] ولما وعد المجاهدين بالمغفرة والرحمة الصادرين عن اسميه الكريمين الغفور الرحيم ختم هذه الآية بهما فقال : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).
[٩٧] هذا الوعيد الشديد ، لمن ترك الهجرة ، مع قدرته عليها ، حتى مات. فإن الملائكة الّذين يقبضون روحه ، يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم ، ويقولون لهم : (فِيمَ كُنْتُمْ) أي : على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثرتم سوادهم ، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين ، وفاتكم الخير الكثير ، والجهاد مع رسوله ، والكون مع المسلمين ومعاونتهم على أعدائهم. (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) أي : ضعفاء مقهورين مظلومين ، ليس لنا قدرة على الهجرة. وهم غير صادقين في ذلك ، لأن الله وبخهم ، وتوعدهم ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. واستثنى المستضعفين حقيقة ، ولهذا قالت لهم الملائكة : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) وهذا استفهام تقرير ، أي : قد تقرر عند كل أحد ، أن أرض الله واسعة. فحيثما كان العبد في محل ، لا يتمكن فيه من إظهار دينه ، فإن له متسعا وفسحة من الأرض ، يتمكن فيها من عبادة الله كما قال تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (٥٦). قال الله عن هؤلاء الّذين لا عذر لهم : (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) وهذا كما تقدم ، فيه ذكر بيان السبب الموجب ، فقد يترتب عليه ، مقتضاه ، مع اجتماع شروطه ، وانتفاء موانعه ، وقد يمنع من ذلك مانع. وفي الآية دليل على أن الهجرة ، من أكبر الواجبات ، وتركها ، من المحرمات ، بل من أكبر الكبائر. وفي الآية دليل على أن كل من توفي ، فقد استكمل واستوفى ، ما قدر له من الرزق ، والأجل ، والعمل. وذلك مأخوذ من لفظ «التوفي» فإنه يدل على ذلك. لأنه لو بقي عليه شيء من ذلك ، لم يكن متوفيا. وفيه الإيمان بالملائكة ومدحهم ، لأن الله ساق ذلك الخطاب لهم ، على وجه التقرير والاستحسان منهم ، وموافقته لمحله.
[٩٨] ثم استثنى المستضعفين على الحقيقة ، الّذين لا قدرة لهم على الهجرة بوجه من الوجوه فقال : (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً).
[٩٩] فهؤلاء قال الله فيهم : (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) (٩٩). و «عسى» ونحوها ، واجب وقوعها من الله تعالى ، بمقتضى كرمه وإحسانه. وفي الترجية بالثواب ، لمن عمل بعض الأعمال فائدة. وهو أنه لا يوفيه حق توفيته ، ولا يعمله على الوجه اللائق الذي ينبغي. بل يكون مقصرا ، فلا يستحق ذلك الثواب. والله أعلم. وفي الآية الكريمة دليل على أن من عجز عن المأمور ، من واجب وغيره ، فإنه معذور ، كما قال تعالى في العاجزين عن الجهاد : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ). وقال في عموم الأوامر : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). وقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إذا أمرتكم بأمر ، فأتوا منه ما استطعتم». ولكن لا يعذر الإنسان إلا إذا بذل جهده ، وانسدت عليه أبواب الحيل لقوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً). وفي الآية تنبيه على أن الدليل في الحج والعمرة ، ونحوهما ـ مما يحتاج إلى سفر ـ من شروط الاستطاعة.