في الإيمان والمضرة ، في عدم الإيمان به. فالسبب الموجب ، هو : إخباره بأنه جاءهم بالحق. فمجيئه نفسه حق ، وما جاء به من الشرع حق. فإن العاقل ، يعرف أن بقاء الخلق في جهلهم يعمهون ، وفي كفرهم يترددون ، والرسالة قد انقطعت عنهم ، غير لائق بحكمة الله ورحمته. فمن حكمته ورحمته العظيمة ، نفس إرسال الرسول إليهم ، ليعرفهم الهدى من الضلال ، والغي من الرشد. فمجرد النظر في رسالته ، دليل قاطع على صحة نبوته. وكذلك النظر إلى ما جاء به ، من الشرع العظيم ، والصراط المستقيم. فإنه فيه من الإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة ، والخبر عن الله ، وعن اليوم الآخر ـ ما لا يعرفه أحد إلا بالوحي والرسالة. وما فيه من الأمر ، بكل خير وصلاح ، ورشد ، وعدل ، وإحسان ، وصدق ، وبر ، وصلة ، وحسن خلق ، ومن النهي عن الشر والفساد ، والبغي والظلم ، وسوء الخلق ، والكذب والعقوق ، مما يقطع به أنه من عند الله. وكلما ازداد به العبد بصيرة ، ازداد إيمانه ويقينه ، فهذا السبب الداعي للإيمان. وأما الفائدة في الإيمان ، فأخبر أنه (خَيْراً لَكُمْ) والخير ، ضد الشر. فالإيمان ، خير للمؤمنين ، في أبدانهم ، وقلوبهم ، وأرواحهم ، ودنياهم ، وأخراهم. وذلك لما يترتب عليه ، من المصالح والفوائد. فكل ثواب ، عاجل وآجل ، فمن ثمرات الإيمان. فالنصر ، والهدى ، والعلم ، والعمل الصالح ، والسرور ، والأفراح ، والجنة ، وما اشتملت عليه ، من النعيم ـ كل ذلك ، سبب عن الإيمان. كما أن الشقاء الدنيوي ، والأخروي ، من عدم الإيمان ، أو نقصه. وأما مضرة عدم الإيمان به صلىاللهعليهوسلم ، فيعرف بضد ما يترتب عليه الإيمان. وأن العبد لا يضر إلا نفسه ، والله تعالى ، غني عنه ، لا تضره معصية العاصين. ولهذا قال : (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : الجميع خلقه وملكه ، وتحت تدبيره وتصريفه (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بكل شيء (حَكِيماً) في خلقه وأمره. فهو العليم بمن يستحق الهداية والغواية ، الحكيم في وضع الهداية والغواية ، موضعهما.
[١٧١] ينهى تعالى ، أهل الكتاب عن الغلو في الدين ، وهو : مجاوزة الحد ، والقدر المشروع ، إلى ما ليس بمشروع. وذلك كقول النصارى ، في غلوهم بعيسى عليهالسلام ، ورفعه عن مقام النبوة والرسالة إلى مقام الربوبية الذي لا يليق بغير الله. فكما أن التقصير والتفريط ، من المنهيات ، فالغلو كذلك. ولهذا قال : (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) وهذا الكلام ، يتضمن ثلاثة أشياء : أمران منهي عنهما ، وهما قول الكذب على الله ، والقول بلا علم ، في أسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، وشرعه ، ورسله. والثالث : مأمور وهو : قول الحق في هذه الأمور. ولما كانت هذه قاعدة عامة كلية ، وكان السياق في شأن عيسى عليهالسلام ، نصا على قول الحق فيه ، المخالف للطريقة اليهودية والنصرانية قال : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) أي : غاية المسيح عليهالسلام ومنتهى ما يصل إليه من مراتب الكمال ، أعلى حالة تكون للمخلوقين ، وهي درجة الرسالة ، التي هي أعلى الدرجات ، وأجل المثوبات. وأنه (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) أي : كلمة تكلم الله بها فكان بها عيسى ، ولم يكن تلك الكلمة ، وإنما كان بها ، وهذا من باب إضافة التشريف والتكريم. وكذلك قوله : (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي : من الأرواح التي خلقها ، وكملها بالصفات الفاضلة ، والأخلاق الكاملة. أرسل الله روحه ، جبريل عليهالسلام ، فنفخ في فرج مريم عليهاالسلام. فحملت بإذن الله ، بعيسى عليهالسلام. فلما بيّن حقيقة عيسى عليهالسلام ، أمر أهل الكتاب بالإيمان به ، وبرسله ، ونهاهم أن يجعلوا الله ، ثالث ثلاثة ، أحدهم عيسى ، والثاني مريم فهذه مقالة النصارى ، قبحهم الله. فأمرهم أن ينتهوا ، وأخبر أن ذلك ، خير لهم ، لأنه الذي يتعين ، أنه سبيل النجاة ، وما سواه ، فهو طرق الهلاك. ثم نزه نفسه عن الشريك والولد فقال : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) أي : هو المنفرد بالألوهية ، الذي لا تنبغي العبادة إلا له. (سُبْحانَهُ) أي : تنزه وتقدس (أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) لأن : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فالكل مملوكون له ، مفتقرون إليه ، فمحال أن يكون له شريك منهم ، أو ولد.
[١٧٢] ولما أخبر أن المالك للعالم العلوي والسفلي ، أخبر أنه قائم بمصالحهم الدنيوية والأخروية وحافظها ،