ومجازيها فقال تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ) إلى قوله : (وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).
[١٧٣] لما ذكر تعالى غلو النصارى في عيسى عليهالسلام ، وذكر أنه عبده ورسوله ، ذكر هنا ، أنه لا يستنكف عن عبادة ربه ، أي : لا يمتنع عنها رغبة عنها لا هو (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ). فنزههم عن الاستنكاف ، وتنزيههم عن الاستكبار ، من باب أولى. ونفي الشيء فيه إثبات ضده. أي : فعيسى والملائكة المقربون ، قد رغبوا في عبادة ربهم ، وأحبوها وسعوا فيها ، بما يليق بأحوالهم ، فأوجب لهم ذلك الشرف العظيم ، والفوز العظيم. فلم يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لربوبيته ، ولا لإلهيته ، بل يرون افتقارهم لذلك ، فوق كل افتقار. ولا يظن أن رفع عيسى ، أو غيره من الخلق ، فوق مرتبته ، التي أنزله الله فيها ، وترفعه عن العبادة كمالا ، بل هو النقص بعينه ، وهو محل الذم والعقاب ، ولهذا قال : (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) أي : فسيحشر الخلق كلهم إليه ، المستنكفين ، والمستكبرين وعباده المؤمنين ، فيحكم بينهم ، بحكمه العدل ، وجزائه الفصل. ثم فصل حكمه فيهم فقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : جمعوا بين الإيمان المأمور به ، وعمل الصالحات ، من واجبات ، ومستحبات ، في حقوق الله ، وحقوق عباده. (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي : الأجور التي رتبها على الأعمال ، كل بحسب إيمانه وعمله. (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) من الثواب ، الذي لم تنله أعمالهم ، ولم تصل إليه أفعالهم ، ولم يخطر على قلوبهم. ودخل في ذلك ، كل ما في الجنة ، من المآكل ، والمشارب ، والمناكح ، والمناظر ، والسرور ، ونعيم القلب والروح ، ونعيم البدن. بل يدخل في ذلك ، كل خير ، ديني ودنيوي ، رتب على الإيمان ، والعمل الصالح. (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا) أي : عن عبادة الله تعالى (فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) وهو سخط الله وغضبه ، والنار الموقدة ، التي تطلع على الأفئدة. (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي : لا يجدون أحدا من الخلق ، يتولاهم ، فيحصل لهم المطلوب ، ولا من ينصرهم ، فيدفع عنهم المرهوب. بل قد تخلى عنهم ، أرحم الراحمين ، وتركهم في عذابهم خالدين. وما حكم به تعالى ، فلا راد لحكمه ، ولا مغير لقضائه.
[١٧٤] يمتن تعالى ، على سائر الناس ، بما أوصل إليهم ، من البراهين القاطعة ، والأنوار الساطعة ، ويقيم عليهم الحجة ، ويوضح لهم المحجة فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : حجج قاطعة على الحق ، تبينه وتوضحه ، وتبين ضده. وهذا يشمل الأدلة العقلية والنقلية ، والآيات الأفقية والنفسية (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ). وفي قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) ما يدل على شرف هذا البرهان وعظمته ، حيث كان من ربكم ، الذي رباكم التربية الدينية والدنيوية. فمن تربيته لكم ، التي يحمد عليها ويشكر ، أن أوصل إليكم البينات ، ليهديكم بها إلى الصراط المستقيم ، والوصول إلى جنات النعيم. (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) وهو هذا القرآن العظيم ، الذي قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين ، والأخبار الصادقة النافعة ، والأمر بكل عدل وإحسان وخير ، والنهي عن كل ظلم وشر. فالناس في ظلمة ، إن لم يستضيئوا بأنواره ، وفي شقاء عظيم ، إن لم يقتبسوا من