حكمته ، كما قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤) وكما قال تعالى : (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ذلكم الذي ، خلق ما خلق ، وقدّر ما قدّر.
[١٠٢] (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي : المألوه المعبود ، الذي يستحق نهاية الذل له ، ونهاية الحب. الرب ، الذي ربى جميع الخلق بالنّعم ، وصرف عنهم صنوف النقم. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) أي : إذا استقر وثبت ، أنه الله الذي لا إله إلّا هو ، فاصرفوا له جميع أنواع العبادة ، وأخلصوها لله ، واقصدوا بها وجهه. فإن هذا هو المقصود من الخلق ، الذين خلقوا لأجله (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥٦). (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي : جميع الأشياء ، تحت وكالة الله وتدبيره ، خلقا ، وتدبيرا ، وتصريفا. ومن المعلوم ، أن الأمر المتصرف فيه يكون استقامته ، وتمامه ، وكمال انتظامه ، بحسب حال الوكيل عليه. ووكالته تعالى على الأشياء ، ليست من جنس وكالة الخلق ، فإن وكالتهم ، وكالة نيابة ، والوكيل فيها ، تابع لموكله. وأما الباري ، تبارك وتعالى ، فوكالته من نفسه لنفسه ، متضمنة لكمال العلم ، وحسن التدبير والإحسان فيه ، والعدل. فلا يمكن أحدا ، أن يستدرك على الله ، ولا يرى في خلقه خللا ، ولا فطورا ، ولا في تدبيره ، نقصا وعيبا. ومن وكالته : أنه تعالى ، توكل ببيان دينه ، وحفظه عن المزيلات والمغيرات ، وأنه تولى حفظ المؤمنين وعصمتهم عمّا يزيل إيمانهم ودينهم.
[١٠٣] (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) لعظمته ، وجلاله وكماله. أي : لا تحيط به الأبصار ، وإن كانت تراه في الآخرة ، وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم. فنفي الإدراك ، لا ينفي الرؤية ، بل يثبتها بالمفهوم. فإنه إذا نفى الإدراك ، الذي هو أخص أوصاف الرؤية ، دلّ على أن الرؤية ثابتة. فإنه لو أراد نفي الرؤية ، لقال : «لا تراه الأبصار» ونحو ذلك. فعلم أنه ليس في الآية ، حجة لمذهب المعطلة ، الذين ينفون رؤية ربهم في الآخرة. بل فيها ما يدل على نقيض قولهم. (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أي : هو الذي أحاط علمه ، بالظواهر والبواطن ، وسمعه ، بجميع الأصوات الظاهرة والخفية ، وبصره بجميع المبصرات ، صغارها ، وكبارها ، ولهذا قال : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الذي لطف علمه وخبرته ، ودق ، حتى أدرك السرائر والخفايا ، والخبايا ، والبواطن. ومن لطفه ، أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه ، ويوصلها إليه بالطرق ، التي لا يشعر بها العبد ، ولا يسعى فيها. ويوصله إلى السعادة الأبدية ، والفلاح السرمدي ، من حيث لا يحتسب. حتى أنه يقدر عليه الأمور ، التي يكرهها العبد ، ويتألم منها ، ويدعو الله أن يزيلها ، لعلمه أن دينه أصلح ، وأن كماله متوقف عليها. فسبحان اللطيف لما يشاء ، الرحيم بالمؤمنين.
[١٠٤] (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (١٠٤). لما بين تعالى من الآيات البينات ، والأدلة الواضحات ، الدالة على الحق في جميع المطالب والمقاصد ، نبه العباد عليها ، وأخبر أن هدايتهم وضدها لأنفسهم ، فقال : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : آيات ، تبين الحق ، وتجعله للقلب ، بمنزلة الشمس للأبصار ، لما اشتملت عليه ، من فصاحة اللفظ ، وبيانه ، ووضوحه ، ومطابقته للمعاني الجليلة ، والحقائق