حجة مستندة إلى العلم والبرهان. فأما إذا كانت مستندة إلى مجرد الظن والخرص ، الذي لا يغني من الحق شيئا ، فإنها باطلة ، ولهذا قال : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) فلو كان لهم علم ـ وهم خصوم ألداء ـ لأخرجوه ، فلما لم يخرجوه علم أنه لا علم عندهم. (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) ومن بنى حججه على الخرص والظن ، فهو مبطل خاسر. فكيف إذا بناها على البغي والعناد والشر والفساد؟ ومنها : أن لله الحجة البالغة ، التي لم تبق لأحد عذرا ، التي اتفقت عليها الأنبياء والمرسلون ، والكتب الإلهية ، والآثار النبوية ، والعقول الصحيحة ، والفطر المستقيمة ، والأخلاق القويمة. فعلم بذلك ، أن كل ما خالف هذه الآية القاطعة ، باطل ، لأن نقيض الحقّ ، لا يكون إلّا باطلا. ومنها : أن الله تعالى ، أعطى كل مخلوق قدرة ، وإرادة ، يتمكن بها ، من فعل ما كلّف به. فما أوجب الله على أحد ، ما لا يقدر على فعله ، ولا حرم على أحد ، ما لا يتمكن من تركه. فالاحتجاج ـ بعد هذا ـ بالقضاء والقدر ، ظلم محض ، وعناد صرف. ومنها : أن الله تعالى ، لم يجبر العباد على أفعالهم ، بل جعل أفعالهم ، تبعا لاختيارهم. فإن شاؤوا فعلوا ، وإن شاؤوا كفوا. وهذا أمر مشاهد ، لا ينكره إلا من كابر ، وأنكر المحسوسات. فإن كل أحد ، يفرق بين الحركة الاختيارية ، والحركة القسرية ، وإن كان الجميع داخلا في مشيئة الله ، ومندرجا تحت إرادته. ومنها : أن المحتجين على المعاصي بالقضاء والقدر ، يتناقضون في ذلك. فإنهم لا يمكنهم ، أن يطردوا ذلك ، بل لو أساء إليهم مسيء ، بضرب ، أو أخذ مال ، أو نحو ذلك ، واحتج بالقضاء والقدر ، لما قبلوا منه هذا الاحتجاج ، ولغضبوا من ذلك ، أشد الغضب. فيا عجبا ، كيف يحتجون به على معاصي الله ومساخطه ، ولا يرضون من أحد ، أن يحتج به ، في مقابلة مساخطهم؟ ومنها : أن احتجاجهم بالقضاء والقدر ، ليس مقصودا ، ويعلمون أنه ليس بحجة. وإنّما المقصود منه ، دفع الحقّ ، ويرون أن الحقّ بمنزلة الصائل. فهم يدفعونه ، بكل ما يخطر ببالهم ، من الكلام المصيب عندهم ، والمخطئ.
[١٥٠] أي : قل لمن حرّم ما أحل الله ، ونسب ذلك إلى الله : أحضروا شهداءكم ، الّذين يشهدون أن الله حرم هذا. فإذا قيل لهم هذا الكلام ، فهم بين أمرين : إما : أن لا يحضروا أحدا يشهد بهذا ، فتكون دعواهم ، إذا باطلة ، خالية من الشهود والبرهان. وإما : أن يحضروا أحدا ، يشهد لهم بذلك ، ولا يمكن أن يشهد بهذا إلا كل أفّاك أثيم ، غير مقبول الشهادة. وليس هذا من الأمور التي يصح أن يشهد بها العدول ؛ ولهذا قال تعالى ـ ناهيا نبيه ، وأتباعه عن هذه الشهادة ـ : (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي : يسوون به غيره من الأنداد والأوثان. فإذا كانوا كافرين باليوم الآخر ، غير موحدين الله ، كانت أهواؤهم ، مناسبة لعقيدتهم ، وكانت دائرة ، بين الشرك والتكذيب بالحق. فحري بهوى ، هذا شأنه ، أن ينهى الله خيار خلقه ، عن اتباعه ، وعن الشهادة مع أربابه. وعلم حينئذ ، أن تحريمهم لما أحل الله ، صادر عن تلك الأهواء المضلة.