بها ، فيتدبرونها ، ويتأملونها ، فيبين لهم من معانيها ، بحسب استعدادهم. وهذا مثال للقلوب ، حين ينزل عليها الوحي الذي هو مادة الحياة ، كما أن الغيث ، مادة الحيا ، فإن القلوب الطيبة ، حين يجيئها الوحي ، تقبله وتعلمه ، وتنبت بحسب ، طيب أصلها ، وحسن عنصرها. وأما القلوب الخبيثة ، التي لا خير فيها ، فإذا جاءها الوحي ، لم يجد محلا قابلا ، بل يجدها غافلة معرضة ، أو معارضة ، فيكون كالمطر الذي يمر على السباخ والرمال والصخور ، فلا يؤثر فيها شيئا ، وهذا كقوله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) الآيات.
[٥٩] لما ذكر تعالى ، من أدلة توحيده ، جملة صالحة ، أيد ذلك بذكر ما جرى للأنبياء الداعين إلى توحيده ، مع أممهم المنكرين لذلك ، وكيف أيد الله أهل التوحيد ، وأهلك من عاندهم ولم ينقد لهم ، وكيف اتفقت دعوة المرسلين على دين واحد ، ومعتقد واحد ، فقال عن نوح ـ أول المرسلين ـ. (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، حين كانوا يعبدون الأوثان ، (فَقالَ) لهم : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي : وحده (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) لأنه الخالق الرازق المدبّر لجميع الأمور ، وما سواه مخلوق مدبر ، ليس له من الأمر شيء. ثمّ خوّفهم إن لم يطيعوه عذاب الله فقال : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وهذا من نصحه عليه الصلاة والسّلام ، وشفقته عليهم ، حيث خاف عليهم العذاب الأبدي ، والشقاء السرمدي ، كإخوانه من المرسلين الّذين يشفقون على الخلق أعظم من شفقة آبائهم وأمهاتهم ، فلما قال لهم هذه المقالة ، ردوا عليه أقبح رد.
[٦٠] (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) أي : الرؤساء الأغنياء المتبوعون الّذين قد جرت العادة باستكبارهم على الحقّ ، وعدم انقيادهم للرسل ، (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فلم يكفهم ـ قبحهم الله ـ أنهم لم ينقادوا له ، بل استكبروا عن الانقياد له ، وقدحوا فيه أعظم قدح ، ونسبوه إلى الضلال. ولم يكتفوا بمجرد الضلال حتى جعلوه ، ضلالا مبينا ، واضحا لكل أحد. وهذا من أعظم أنواع المكابرة ، التي لا تروج على أضعف الناس عقلا ، وإنّما هذا الوصف ، منطبق على قوم نوح ، الّذين جاؤوا إلى أصنام ، قد صوروها ونحتوها بأيديهم ، من الجمادات التي لا تسمع ولا تبصر ، ولا تغني عنهم شيئا ، فنزلوها منزلة فاطر السموات ، وصرفوا لها ما أمكنهم ، من أنواع القربات. فلو لا أن لهم أذهانا تقوم بها حجة الله عليهم لحكم عليهم بأن المجانين أهدى منهم ، بل هم أهدى منهم وأعقل ،
[٦١] فرد نوح عليهم ردا لطيفا ، وترقق لهم ، لعلهم ينقادون له فقال : (يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي) أي : لست ضالا في مسألة من المسائل ، بوجه من الوجوه ، وإنّما أنا هاد مهتد. بل هدايته عليه الصلاة والسّلام من جنس هداية إخوانه ، أولي العزم من المرسلين ، أعلى أنواع الهدايات وأكملها ، وأتمها ، وهي هداية الرسالة التامة الكاملة ، ولهذا قال : (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : ربي وربكم ورب جميع الخلق ، بأنواع التربية ، الذي من أعظم تربيته ، أن أرسل إلى عباده رسلا ، تأمرهم بالأعمال الصالحة ، والأخلاق الفاضلة ، والعقائد الحسنة وتنهاهم عن أضدادها.
[٦٢] ولهذا قال : (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ) أي : وظيفتي تبليغكم ، ببيان توحيده ، وأوامره ، ونواهيه ، على وجه النصيحة لكم ، والشفقة عليكم. (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فالذي يتعين أن تطيعوني وتنقادوا لأمري إن كنتم تعلمون.
[٦٣] (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) أي : كيف تعجبون من حالة لا ينبغي العجب منها ، وهو : أن جاءكم التذكير والموعظة والنصيحة ، على يد رجل منكم ، تعرفون حقيقته وصدقه وحاله؟ فهذه الحال من عناية الله بكم وبره وإحسانه الذي يتلقى بالقبول والشكر ، وقوله : (لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي : لينذركم العذاب الأليم ، وتفعلوا الأسباب المنجية من استعمال تقوى الله ، ظاهرا وباطنا ، وبذلك تحصل عليهم وتنزل رحمة الله الواسعة.