فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه.
[٥٦] (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بعمل المعاصي (بَعْدَ إِصْلاحِها) بالطاعات ، فإن المعاصي ، تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق ، كما قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) كما أن الطاعات ، تصلح بها الأخلاق ، والأعمال ، والأرزاق ، وأحوال الدنيا والآخرة. (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي : خوفا من عقابه ، وطمعا في ثوابه ، طمعا في قبولها ، وخوفا من ردها ، لا دعاء عبد مدل على ربه ، قد أعجبته نفسه ، ونزل نفسه فوق منزلته ، أو دعاء من هو غافل لاه. وحاصل ما ذكر الله من آداب الدعاء : الإخلاص فيه لله وحده ، لأن ذلك يتضمنه الخفية. وإخفاؤه وإسراره ، أن يكون القلب خائفا طامعا ، لا غافلا ، ولا آمنا ولا غير مبال بالإجابة ، وهذا من إحسان الدعاء ، فإن الإحسان في كل عبادة ، بذل الجهد فيها ، وأداؤها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه ، ولهذا قال : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) في عبادة الله ، المحسنين إلى عباد الله ، فكلما كان العبد أكثر إحسانا ، كان أقرب إلى رحمة ربه ، وكان ربه قريبا منه برحمته ، وفي هذا من الحث على الإحسان ، ما لا يخفى.
[٥٧] بيّن تعالى ، أثرا من آثار قدرته ، ونفحة من نفحات رحمته فقال : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي : الرياح المبشرات بالغيث ، التي تثيره بإذن الله ، من الأرض ، فيستبشر الخلق برحمة الله ، وترتاح لها قلوبهم قبل نزوله. (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ) الرياح (سَحاباً ثِقالاً) قد أثاره بعضها ، وألفته ريح أخرى ، وألقحته ريح أخرى (سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) قد كادت تهلك حيواناته ، وكاد أهله أن ييأسوا من رحمة الله. (فَأَنْزَلْنا بِهِ) أي : ذلك البلد الميت (الْماءَ) الغزير من ذلك السحاب وسخر الله له ريحا تدره ، وريحا تفرقه بإذن الله. (فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) فأصبحوا مستبشرين برحمة الله ، راتعين بخير الله. وقوله : (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي : كما أحيينا الأرض بعد موتها بالنبات ، كذلك نخرج الموتى من قبورهم ، بعد ما كانوا رفاتا متمزقين ، وهذا استدلال واضح ، فإنه لا فرق بين الأمرين. فمنكر البعث ، استبعادا له ـ مع أنه يرى ما هو نظيره ـ من باب العناد ، وإنكار المحسوسات. وفي هذا ، الحث على التذكر والتفكر في آلاء الله ، والنظر إليها بعين الاعتبار والاستدلال ، لا بعين الغفلة والإهمال.
[٥٨] ثمّ ذكر تفاوت الأراضي ، التي ينزل عليها المطر فقال : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) أي : طيب التربة والمادة ، إذا نزل عليه مطر (يَخْرُجُ نَباتُهُ) الذي هو مستعد له (بِإِذْنِ رَبِّهِ) أي : بإرادة الله ومشيئته ، فليست الأسباب مستقلة بوجود الأشياء ، حتى يأذن الله بذلك. (وَالَّذِي خَبُثَ) من الأراضي (لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) أي : إلا نباتا خاسّا لا نفع فيه ولا بركة. (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) أي : ننوعها ونبينها ونضرب فيها الأمثال ونسوقها لقوم يشكرون الله بالاعتراف بنعمه ، والإقرار بها ، وصرفها في مرضاة الله. فهم الّذين ينتفعون بما فصل الله في كتابه ، من الأحكام ، والمطالب الإلهية لأنهم يرونها من أكبر النعم الواصلة إليهم من ربهم ، فيتلقونها مفتقرين إليها فرحين