فأبلغه مأمنه ، أي : المحل الذي يأمن فيه. والسبب في ذلك أن الكفار قوم لا يعلمون ، فربما كان استمرارهم على كفرهم لجهل منهم ، إذا زال اختاروا عليه الإسلام ، فلذلك أمر الله رسوله ، وأمته أسوة في الأحكام ، أن يجيروا من طلب أن يسمع كلام الله. وفي هذا حجة صريحة لمذهب أهل السنة والجماعة ، القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، لأنه تعالى هو المتكلم به ، وأضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها ، وبطلان مذهب المعتزلة ، ومن أخذ بقولهم : أن القرآن مخلوق. وكم من الأدلة الدالة على بطلان هذا القول ، ليس هذا ، محل ذكرها.
[٧] هذا بيان للحكمة الموجبة ، لأن يتبرأ الله ورسوله من المشركين ، فقال : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) هل قاموا بواجب الإيمان ، أم تركوا رسول الله والمؤمنين من أذيتهم؟ وحاربوا الحقّ ونصروا الباطل؟ أما سعوا في الأرض فسادا؟ فيحق عليهم أن يتبرأ الله منهم ، وأن لا يكون لهم عهد عنده ، ولا عند رسوله؟ (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) من المشركين (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فإن لهم في العهد وخصوصا في هذا المكان الفاضل ، حرمة أوجب أن يراعوا فيها. (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ولهذا قال : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا) إلى قوله : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).
[٨ ـ ١١] أي : (كَيْفَ) يكون للمشركين عند الله عهد وميثاق (وَ) الحال أنهم (إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) بالقدرة والسلطة ، لا يرحموكم ، و (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي : لا ذمة ولا قرابة ، ولا يخافون الله فيكم ، بل يسومونكم سوء العذاب ، فهذه حالكم معهم لو ظهروا. ولا يغرنكم منهم ما يعاملونكم به وقت الخوف منكم ، فإنهم (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) الميل والمحبة لكم ، بل هم الأعداء حقا ، المبغضون لكم صدقا ، (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) لا ديانة لهم ، ولا مروءة. (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي : اختاروا الحظ العاجل الخسيس في الدنيا ، على الإيمان بالله ، ورسوله ، والانقياد لآيات الله. (فَصَدُّوا) بأنفسهم ، وصدوا غيرهم (عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي : لأجل عداوتهم للإيمان وأهله. فالوصف الذي جعلهم يعادونكم لأجله ويبغضونكم هو الإيمان ، فذبوا عن دينكم ، وانصروه واتخذوا من عاداه عدوا ، ومن نصره لكم وليا ، واجعلوا الحكم يدور معه ، وجودا وعدما ، لا تجعلوا الولاية والعداوة ، طبعية تميلون بها ، حيثما مال الهوى ، وتتبعون فيها النفس الأمارة بالسوء ، ولهذا : (فَإِنْ تابُوا) عن شركهم ، ورجعوا إلى الإيمان (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) وتناسوا تلك العداوة إذ كانوا مشركين ، لتكونوا عباد الله المخلصين ، وبهذا يكون العبد عبدا حقيقة. لما بين من أحكامه العظيمة ما بين ، ووضح منها ما وضح ، أحكاما وحكما ، وحكما ، وحكمة قال : (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ) أي : نوضحها ونميزها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإليهم سياق الكلام ، وبهم تعرف الآيات والأحكام ، وبهم عرف دين الإسلام ، وشرائع الدين. اللهم اجعلنا من القوم الّذين يعلمون ، ويعملون بما يعلمون ، برحمتك وجودك ، وكرمك وإحسانك ، يا رب العالمين.