والرضا من الله الذي هو أكبر من نعيم الجنات. وإذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة ، فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو الله جل جلاله ، وإلى العوض ، وهو أكبر الأعواض وأجلها ، جنات النعيم ، وإلى الثمن المبذول فيها ، وهو : النفس ، والمال ، الذي هو أحب الأشياء للإنسان. وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع ، وهو أشرف الرسل ، وبأي الكتب رقم ، في كتب الله الكبار المنزلة ، على أفضل الخلق.
[١١٢] كأنه قيل : من هم المؤمنون الّذين لهم البشارة من الله بدخول الجنات ، ونيل الكرامات؟ فقال : هم (التَّائِبُونَ) أي : الملازمون للتوبة في جميع الأوقات عن جميع السيئات. (الْعابِدُونَ) أي : المتصفون بالعبودية لله ، والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبات في كل وقت ، فبذلك يكون العبد من العابدين. (الْحامِدُونَ) لله في السراء والضراء ، واليسر والعسر ، المعترفون بما لله عليهم من النعم الظاهرة والباطنة ، المثنون على الله بذكرها وبذكره في آناء الليل ، وآناء النهار. (السَّائِحُونَ) فسرت السياحة بالصيام ، أو السياحة في طلب العلم ، وفسرت بسياحة القلب ، في معرفة الله ومحبته ، والإنابة إليه على الدوام ، والصحيح أن المراد بالسياحة : السفر في القربات ، كالحج ، والعمرة ، والجهاد ، وطلب العلم ، وصلة الأقارب ، ونحو ذلك. (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) أي : المكثرون من الصلاة ، المشتملة على الركوع والسجود. (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) ويدخل فيه جميع الواجبات والمستحبات. (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهي جميع ما نهى الله ورسوله عنه. (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) بتعلمهم حدود ما أنزل الله على رسوله ، وما يدخل في الأوامر ، والنواهي ، والأحكام ، وما لا يدخل ، الملازمون لها فعلا وتركا. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) لم يذكر ما يبشر لهم به ، ليعم جميع ما رتب على الإيمان ، من ثواب الدنيا ، والدين والآخرة ، فالبشارة متناولة لكل مؤمن. وأما مقدارها وصفتها فإنها بحسب حال المؤمنين ، وإيمانهم ، قوة ، وضعفا ، وعملا بمقتضاه.
[١١٣ ـ ١١٤] يعني : ما يليق ولا يحسن بالنبي والمؤمنين به (أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) ، أي : لمن كفر به ، وعبد معه غيره (وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) ، فإن الاستغفار لهم في هذه الحال ، غلط غير مفيد ، فلا يليق بالنبي والمؤمنين ، لأنهم إذا ماتوا على الشرك ، أو علم أنهم يموتون عليه ، فقد حقت عليهم كلمة العذاب ، ووجب عليهم الخلود في النار ، ولم تنفع فيهم شفاعة الشافعين ، ولا استغفار المستغفرين. وأيضا ، فإن النبي والّذين آمنوا معه ، عليهم أن يوافقوا ربهم ، في رضاه وغضبه ، ويوالوا من والاه الله ، ويعادوا من عاداه الله ، والاستغفار منهم ، لمن تبين أنه من أصحاب النار ، مناف لذلك ، مناقض له. ولئن وجد الاستغفار من خليل الرحمن إبراهيم عليهالسلام لأبيه فإنه (عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) في قوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) وذلك قبل أن يعلم عاقبة أبيه. فلما تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله ، سيموت على الكفر ، ولم ينفع فيه الوعظ والتذكير (تَبَرَّأَ مِنْهُ) موافقة لربه وتأدبا معه. (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) أي : رجّاع إلى الله في جميع الأمور ، كثير الذكر ، والدعاء ، والاستغفار ، والإنابة إلى ربه. (حَلِيمٌ) أي : ذو رحمة بالخلق ، وصفح عما يصدر منهم إليه من الزلات ، لا يستفزه