جهل الجاهلين ، ولا يقابل الجاني عليه بجرمه ، فأبوه قال له : (لَأَرْجُمَنَّكَ) وهو يقول له : (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي). فعليكم أن تقتدوا به ، وتتبعوا ملّة إبراهيم في كل شيء (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) كما نبهكم الله عليها ، وعلى غيرها ، ولهذا قال : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) إلى (وَلا نَصِيرٍ).
[١١٥] يعني أن الله تعالى إذا منّ على قوم بالهداية ، وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم ، فإنه تعالى يتمم عليهم إحسانه ، ويبين لهم جميع ما يحتاجون إليه ، وتدعو إليه ضرورتهم ، فلا يتركهم ضالين ، جاهلين بأمور دينهم ، ففي هذا دليل على كمال رحمته ، وأن شريعته وافية ، بجميع ما يحتاجه العباد في أصول الدين وفروعه. ويحتمل أن المراد بذلك (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) فإذا بين لهم ما يتقون ، فلم ينقادوا له ، عاقبهم بالإضلال ، جزاء لهم ، على ردهم الحقّ المبين ، والأول أولى. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلكمال علمه وعمومه علمكم ما لم تكونوا تعلمون ، وبين لكم ما به تنتفعون.
[١١٦] (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي : هو المالك لذلك ، المدبر لعباده بالإحياء والإماتة ، وأنواع التدابير الإلهية ، فإذا كان لا يخل بتدبيره القدري فكيف يخل بتدبيره الديني ، المتعلق بإلهيته ، ويترك عباده سدى مهملين ، أو يدعهم ضالين جاهلين ، وهو أعظم تولية لعباده؟ فلهذا قال : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي : ولي يتولاكم ، بجلب المنافع لكم ، أو نصير يدفع عنكم المضار.
[١١٧] يخبر تعالى أنه من لطفه وإحسانه (تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) محمد صلىاللهعليهوسلم (وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) فغفر لهم الزلات ، ووفر لهم الحسنات ، ورقاهم إلى أعلى الدرجات ، وذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقات ، ولهذا قال : (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أي : خرجوا معه لقتال الأعداء في غزوة «تبوك» وكانت في حر شديد ، وضيق من الزاد والركوب ، وكثرة عدد مما يدعو إلى التخلف. فاستعانوا بالله تعالى ، وقاموا بذلك (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي : تنقلب قلوبهم ، ويميلوا إلى الدعة والسكون ، ولكن الله ثبتهم ، وأيدهم وقواهم. وزيغ القلب ، هو انحرافه عن الصراط المستقيم ، فإن كان الانحراف في أصل الدين ، كان كفرا ، وإن كان في شرائعه ، كان بحسب تلك الشريعة ، التي زاغ عنها ، إما قصر عن فعلها ، أو فعلها على غير الوجه الشرعي. وقوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أي : قبل توبتهم (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ، ومن رأفته ورحمته ، أن منّ عليهم بالتوبة ، وقبلها منهم ، وثبتهم عليها.
[١١٨] (وَ) كذلك لقد تاب (عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) عن الخروج مع المسلمين في تلك الغزوة ، وهم : «كعب بن مالك» وصاحباه ، وقصتهم مشهورة ، معروفة ، في الصحاح والسنن. (حَتَّى إِذا) حزنوا حزنا عظيما ، و (ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي : على سعتها ورحبها (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) التي هي أحب إليهم من كل شيء ، فضاق عليهم الفضاء الواسع ، والمحبوب الذي لم تجر العادة بالضيق منهم ، وذلك لا يكون إلا من أمر مزعج ، بلغ من الشدة والمشقة ، ما لا يمكن التعبير عنه ، وذلك لأنهم قدموا رضا الله ورضا رسوله على كل شيء. (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي : تيقنوا ، وعرفوا بحالهم ، أنه لا ينجي من الشدائد ، ويلجأ إليه ، إلا الله وحده لا شريك به ، فانقطع تعلقهم بالمخلوقين ، وتعلقوا بالله ربهم ، وفروا منه إليه ، فمكثوا بهذه الشدة نحو خمسين ليلة. (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أي : أذن في توبتهم ، ووفقهم لها (لِيَتُوبُوا) لتقع منهم ، فيتوب الله عليهم. (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) أي : كثير التوبة والعفو ، والغفران عن الزلات والنقصان. (الرَّحِيمُ) وصفه الرحمة العظيمة التي لا تزال تنزل على العباد ، في كل وقت وحين ، في جميع اللحظات ، ما تقوم به أمورهم الدينية والدنيوية. وفي هذه الآيات دليل على أن توبة الله على العبد ، أجل الغايات ، وأعلى النهايات ، فإن الله جعلها نهاية خواص عباده ، وامتنّ عليهم بها ، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها. ومنها : لطف الله بهم ، وتثبيتهم في إيمانهم ، عند الشدائد ،