الله مانع. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ما هو الأنفع لكم والأصلح ، وتدبرون الأمور. (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) أي : غايتي أني رسول الله إليكم ، أبشركم ، وأنذركم ، وما عدا ذلك ، فليس بيدي من الأمر شيء ، فليست خزائن الله عندي ، أدبرها أنا ، وأعطي من أشاء ، وأحرم من أشاء ، (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) فأخبركم بسرائركم وبواطنكم (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ). والمعنى : أني لا أدعي رتبة فوق رتبتي ، ولا منزلة سوى المنزلة التي أنزلني الله بها ، ولا أحكم على الناس بظني. (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) أي : الضعفاء المؤمنين الذين يحتقرهم الملأ الذين كفروا (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) ، فإن كانوا صادقين في إيمانهم فلهم الخير الكثير ، وإن كانوا غير ذلك ، فحسابهم على الله. (إِنِّي إِذاً) أي : إن قلت لكم شيئا مما تقدم (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) ، وهذا تأييس منه عليه الصلاة والسلام لقومه ، أن ينبذ فقراء المؤمنين ، أو يمقتهم ، وإقناع لقومه ، بالطرق المقنعة للمنصف.
[٣٢] فلما رأوه ، لا ينكف عما كان عليه من دعوتهم ، ولم يدركوا منه مطلوبهم (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٣٢) ، فما أجهلهم وأضلهم ، حيث قالوا هذه المقالة لنبيهم الناصح. فهلا قالوا إن كانوا صادقين : يا نوح قد نصحتنا ، وأشفقت علينا ، ودعوتنا إلى أمر لم يتبين لنا فنريد منك أن تبينه لنا لننقاد لك ، وإلا فأنت مشكور في نصحك. لكان هذا الجواب المنصف ، للذي قد دعا إلى أمر خفي عليه ، ولكنهم في قولهم كاذبون ، وعلى نبيهم متجرئون. ولم يردوا ما قاله بأدنى شبهة ، فضلا عن أن يردوه بحجة.
[٣٣] ولهذا عدلوا ـ من جهلهم وظلمهم ـ إلى الاستعجال بالعذاب ، وتعجيز الله ، ولهذا أجابهم نوح عليهالسلام بقوله : (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) أي : إن اقتضت مشيئته وحكمته أن ينزله بكم ، فعل ذلك. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) لله ، وأنا ليس بيدي من الأمر شيء.
[٣٤] (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) ، أي : إن إرادة الله غالبة ، فإنه إذا أراد أن يغويكم ، لردكم الحق ، فلو حرصت غاية مجهودي ، ونصحت لكم أتم النصح ـ وهو قد فعل عليهالسلام ـ فليس ذلك بنافع لكم شيئا ، و (هُوَ رَبُّكُمْ) يفعل بكم ما يشاء ، ويحكم فيكم ما يريد (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم بأعمالكم.
[٣٥] (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) هذا الضمير محتمل أن يعود إلى نوح كما كان السياق في قصته مع قومه ، وأن المعنى أن قومه يقولون : افترى على الله كذبا ، وكذب بالوحي الذي يزعم أنه من الله ، وأن الله أمره أن يقول : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي : كلّ عليه وزره (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى). ويحتمل أن يكون عائدا إلى النبي محمد صلىاللهعليهوسلم ، وتكون هذه الآية معترضة في أثناء قصة نوح وقومه ، لأنها من الأمور التي لا يعلمها إلا الأنبياء ، فلما شرع الله في قصها على رسوله ، وكانت من جملة الآيات الدالة على صدقه ورسالته ، ذكر تكذيب قومه مع البيان التام فقال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي : هذا القرآن اختلقه محمد من تلقاء نفسه ، أي : فهذا من أعجب الأقوال وأبطلها ، فإنهم يعلمون أنه لم يقرأ ولم يكتب ، ولم يرحل عنهم لدراسة على أهل الكتاب ، فجاء بهذا الكتاب الذي تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله. فإن زعموا ـ مع هذا ـ أنه افتراه ، علم أنهم معاندون ، ولم يبق فائدة في حجاجهم ، بل اللائق في هذه الحال ، الإعراض عنهم ، ولهذا قال : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي) أي : ذنبي وكذبي ، (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي : فلم تستلجون في تكذيبي.
[٣٦] وقوله : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) أي : قد قسوا ، (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي : فلا تحزن ، ولا تبال بهم ، وبأفعالهم ، فإن الله قد مقتهم ، وأحق عليهم عذابه الذي لا يرد.
[٣٧] (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) أي : بحفظنا ، ومرأى منا ، وعلى مرضاتنا ، (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : لا تراجعني في إهلاكهم ، (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي : قد حق القول ، ونفذ فيهم القدر.