التقادير المناسبة ، أن الملك الذي ترجع إليه أمور الرعية هو الذي رآها ، لارتباط مصالحها به. وذلك أنه رأى رؤيا هالته ، فجمع علماء قومه ، وذوي الرأي منهم وقال : (إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ) أي : سبع من البقرات (عِجافٌ) ، وهذا من العجب ، أن السبع العجاف الهزيلات ، اللاتي سقطت قوتهن ، يأكلن السبع السمان ، التي كنّ نهاية في القوة. (وَ) رأيت (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ) أي : وسبع سنبلات أخر (يابِساتٍ) ، (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) لأن تعبير الجميع واحد ، وتأويلهن شيء واحد ، (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) فتحيروا ، ولم يعرفوا لها وجها. (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي : أحلام لا حاصل لها ، ولا لها تأويل. وهذا جزم منهم ، بما لا يعلمون ، وتعذر منهم ، بما ليس بعذر ، ثم قالوا : (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) أي : لا نعبر إلا الرؤيا ، وأما الأحلام ، التي هي من الشيطان ، أو من حديث النفس ، فإنا لا نعبرها. فجمعوا بين الجهل والجزم ، بأنها أضغاث أحلام ، والإعجاب بالنفس ، بحيث إنهم لم يقولوا : لا نعلم تأويلها ، وهذا من الأمور ، التي لا تنبغي لأهل الدين والحجا. وهذا أيضا ، من لطف الله ، بيوسف عليهالسلام. فإنه لو عبرها ابتداء ـ قبل أن يعرضها على الملأ من قومه وعلمائهم ، فيعجزوا عنها ـ لم يكن لها ذلك الموقع ، ولكن لما عرضها عليهم ، فعجزوا عن الجواب ، وكان الملك مهتما لها ، غاية الاهتمام ، فعبرها يوسف ـ وقعت عندهم موقعا عظيما. وهذا نظير إظهار الله فضل آدم على الملائكة ، بالعلم ، بعد أن سألهم ، فلم يعلموا. ثم سأل آدم ، فعلمهم أسماء كل شيء ، فحصل بذلك ، زيادة فضله. وكما يظهر فضل أفضل خلقه ، محمد صلىاللهعليهوسلم في القيامة ، أن يلهم الله الخلق ، أن يتشفعوا بآدم ، ثم بنوح ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى عليهمالسلام ، فيعتذرون عنها. ثم يأتون محمدا صلىاللهعليهوسلم فيقول : «أنا لها أنا لها» ، فيشفع في جميع الخلق ، وينال ذلك المقام المحمود ، الذي يغبطه به الأولون والآخرون. فسبحان من خفيت ألطافه ، ودقّت في إيصاله البر والإحسان ، إلى خواص أصفيائه ، وأوليائه. (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما) أي : من الفتيين ، وهو : الذي رأى أنه يعصر خمرا ، وهو الذي أوصاه يوسف ، أن يذكره عند ربه (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي : وتذكر يوسف ، وما جرى له في تعبيره لرؤياهما ، وما وصاه به ، وعلم أنه كفيل بتعبير هذه الرؤيا بعد مدة ، من السنين فقال : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) إلى يوسف لأسأله عنها. فأرسلوه ، فجاء إليه ، ولم يعنفه يوسف على نسيانه ، بل استمع ما يسأله عنه ، وأجابه عن ذلك فقال : (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) أي : كثير الصدق في أقواله وأفعاله ، (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) فإنهم متشوفون لتعبيرها ، وقد أهمتهم. فعبر يوسف ، السبع البقرات السمان ، والسبع السنبلات الخضر ، بأنهن سبع سنين مخصبات ، والسبع البقرات العجاف ، والسبع السنبلات اليابسات ، بأنهن سنين مجدبات. ولعل وجه ذلك ـ والله أعلم ـ أن الخصب والجدب لما كان الحرث مبنيا عليه ، وأنه إذا حصل الخصب ، قويت الزروع والحروث ، وحسن منظرها ، وكثرت غلالها ، والجدب بالعكس من ذلك. وكانت البقر ، هي التي تحرث عليها الأرض ، وتسقى عليها