الواقعة. فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه عنده ، على وجه لا يشعر به إخوته ، قال تعالى : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي : يسّرنا له هذا الكيد ، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) لأنه ليس من دينه أن يتملك السارق ، وإنما له عندهم جزاء آخر ، فلو ردت الحكومة إلى دين الملك ، لم يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده ، ولكنه جعل الحكم منهم ، ليتم له ما أراد. قال تعالى : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالعلم النافع ، ومعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها ، كما رفعنا درجات يوسف ، (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) فكل عالم ، فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى علام الغيب والشهادة. فلما رأى إخوة يوسف ما رأوا (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ) هذا الأخ ، فليس هذا غريبا عنه ، (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) يعنون : يوسف عليهالسلام ، ومقصودهم تبرئة أنفسهم وأن هذا وأخاه قد يصدر منهم ما يصدر من السرقة ، وهما ليسا شقيقين لنا. وفي هذا من الغض عليهما ما فيه ، ولهذا : أسرها يوسف في نفسه (وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أي : لم يقابلهم على ما قالوه بما يكرهون ، بل كظم الغيظ ، وأسرّ الأمر في نفسه ، و (قالَ) في نفسه (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) حيث ذممتمونا بما أنتم على أشر منه ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) منا ، من وصفنا بالسرقة ، يعلم الله أنا برآء منها.
[٧٨ ـ ٧٩] ثم سلكوا معه ، مسلك التملق ، لعله يسمح لهم بأخيهم. (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) أي : وإنه لا يصبر عنه ، وسيشق عليه فراقه ، (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فأحسن إلينا وإلى أبينا بذلك. (قالَ) يوسف (مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) أي : هذا ظلم منا ، لو أخذنا البريء ، بذنب من وجدنا متاعنا عنده ، ولم يقل «من سرق» كل هذا تحرز من الكذب ، (إِنَّا إِذاً) أي : أخذنا غير من وجد في رحله (لَظالِمُونَ) حيث وضعنا العقوبة في غير موضعها.
[٨٠ ـ ٨٢] أي : فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم (خَلَصُوا نَجِيًّا) أي : اجتمعوا وحدهم ، ليس معهم غيرهم ، وجعلوا يتناجون فيما بينهم ، (قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) في حفظه ، وأنكم تأتون به إلا أن يحاط بكم (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) ، فاجتمع عليكم الأمران ، تفريطكم السابق في يوسف ، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق ، فليس لي وجه أواجه به أبي. (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي : سأقيم في هذه الأرض ، ولا أزال بها (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) أي : يقدر لي المجيء وحدي ، أو مع أخي (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ). ثم وصاهم بما يقولون لأبيهم فقال : (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) أي : وأخذ بسرقته ، ولم يحصل لنا أن نأتيك به ، مع ما بذلنا من الجهد في ذلك. والحال ، أنا ما شهدنا بشيء لم نعلمه ، وإنما شهدنا بما علمنا ، لأننا رأينا الصواع استخرج من رحله ، (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) أي : لو كنا نعلم الغيب ، لما حرصنا ، وبذلنا المجهود في ذهابه معنا ، ولما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا ، فلم نظن أن الأمر ، سيبلغ ما بلغ. (وَسْئَلِ) إن شككت في قولنا (الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) فقد اطلعوا على ما أخبرناك به