تلك المدة ، بل لعل ذلك اتصل إلى أن اجتمعوا بيوسف ، وكلما صار البحث ، حصل من الإخبار بالكذب ، والافتراء ، ما حصل ، وهذا شؤم الذنب ، وآثاره التابعة ، والسابقة ، واللاحقة. ومنها : أن العبرة في حال العبد ، بكمال النهاية ، لا بنقص البداية ، فإن أولاد يعقوب ، عليهالسلام ، جرى منهم ما جرى ، في أول الأمر ، مما هو أكبر أسباب النقص واللوم ، ثم انتهى أمرهم إلى التوبة النصوح ، والسماح التام ، من يوسف ، ومن أبيهم ، والدعاء بالمغفرة والرحمة ، وإذا سمح العبد عن حقه ، فالله خير الراحمين. ولهذا ـ في أصح الأقوال ـ أنهم كانوا أنبياء لقوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) ، والأسباط هم : أولاد يعقوب الاثنا عشر ، وذريتهم. ومما يدل على ذلك ، أن في رؤيا يوسف ، أنه رآهم كواكب نيرة ، والكواكب فيها النور والهداية ، وذلك من صفات الأنبياء ، فإن لم يكونوا أنبياء ، فإنهم علماء هداة. ومنها : ما منّ الله به على يوسف ، عليه الصلاة والسّلام ، من العلم ، والحلم ، ومكارم الأخلاق ، والدعوة إلى الله ، وإلى دينه ، وعفوه عن إخوته الخاطئين ، عفوا بادرهم به ، وتم ذلك بأن لا يثرب عليهم ، ولا يعيرهم به. ثمّ برّه العظيم بأبويه ، وإحسانه لإخوته ، بل لعموم الخلق. ومنها : أن بعض الشر ، أهون من بعض ، وارتكاب أخف الضررين ، أولى من ارتكاب أعظمهما ، فإن إخوة يوسف ، لما اتفقوا على قتل يوسف ، أو إلقائه أرضا وقال قائل منهم : (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) كان قوله أحسن منهم وأخف ، وبسببه خف عن إخوته الإثم الكبير. ومنها : أن الشيء إذا تداولته الأيدي ، وصار من جملة الأموال ، ولم يعلم أنه كان على غير الشرع ، أنه لا إثم على من باشره ، ببيع ، أو شراء ، أو خدمة ، أو انتفاع ، أو استعمال. فإن يوسف عليهالسلام ، باعه إخوته بيعا حراما ، لا يجوز. ثمّ ذهبت به السيارة إلى مصر ، فباعوه بها ، وبقي عند سيده غلاما رقيقا ، وسماه الله سيدا ، وكان عندهم بمنزلة الغلام الرقيق المكرم. ومنها : الحذر من الخلوة بالنساء ، اللائي يخشى منهن الفتنة ، والحذر أيضا من المحبة ، التي يخشى ضررها. فإن امرأة العزيز ، جرى منها ما جرى ، بسبب انفرادها بيوسف ، وحبها الشديد له ، الذي ما تركها ، حتى راودته تلك المراودة ، ثمّ كذبت عليه ، فسجن ـ بسببها ـ مدة طويلة. ومنها : أن الهمّ الذي ، همّ به يوسف بالمرأة ، ثمّ تركه لله ، مما يرقيه إلى الله زلفى ، لأن الهم داع من دواعي النفس ، الأمارة بالسوء ، وهو طبيعة لأغلب الخلق. فلما قابل بينه وبين محبة الله وخشيته ، غلبت محبة الله وخشيته ، داعي النفس ، والهوى ، فكان ممن (خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) ، ومن السبعة الّذين يظلهم الله في ظل عرشه ، يوم لا ظل إلا ظله ، أحدهم رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله ، وإنّما الهم الذي يلام عليه العبد ، الهم الذي يساكنه ، ويصير عزما ، ربما اقترن به الفعل. ومنها : أن من دخل الإيمان قلبه ، وكان مخلصا لله ، في جميع أموره فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه ، وصدق إخلاصه ، من أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ، ما هو جزاء لإيمانه وإخلاصه لقوله : (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) على قراءة من قرأها بكسر اللام ، ومن قرأها بالفتح ، فإنه من إخلاص الله إياه ، وهو متضمن لإخلاصه هو بنفسه ، فلما أخلص عمله لله ، أخلصه الله ، وخلصه من السوء والفحشاء.
ومنها : أنه ينبغي للعبد إذا رأى محلا فيه فتنة وأسباب معصية ، أن يفر منه ، ويهرب ، غاية ما يمكنه ، ليتمكن من التخلص من المعصية ، لأن يوسف عليهالسلام ـ لما راودته التي هو في بيتها ـ فر هاربا ، يطلب الباب ، ليتخلص من
شرها. ومنها : أن القرائن يعمل بها ، عند الاشتباه ، فلو تخاصم رجل وامرأته في شيء من أواني الدار ، فما يصلح للرجل ، فإنه للرجل ، وما يصلح للمرأة ، فهو لها ، هذا إذا لم يكن بينة. وكذا لو تنازع نجار وحداد في آلة حرفتهما ، من غير بينة ، والعمل بالقيافة ، في الأشباه والأثر ، من هذا الباب. فإن شاهد يوسف شهد بالقرينة ، وحكم بها في قد القميص ، واستدل بقدّه من دبره على صدق يوسف وكذبها. ومما يدل على هذه القاعدة ، أن استدل بوجود الصّواع في رحل أخيه على الحكم عليه بالسرقة ، من غير بينة شهادة ، ولا إقرار. فعلى هذا ، إذا وجد