البراءة لها ، بل يحمد على ذلك ، كما امتنع يوسف عن الخروج من السجن حتى تتبين لهم براءته بحال النسوة ، اللاتي قطعن أيديهن. ومنها : فضيلة العلم ، علم الأحكام والشرع ، وعلم تعبير الرؤيا ، وعلم التدبير والتربية ؛ وأنه أفضل من الصورة الظاهرة ، ولو بلغت في الحسن جمال يوسف ، فإن يوسف ـ بسبب جماله ـ حصلت له تلك المحنة ، والسجن ، وبسبب علمه ، حصل له العز والرفعة ، والتمكين في الأرض ، فإن كل خير في الدنيا والآخرة ، من آثار العلم وموجباته. ومنها : أن علم التعبير ، من العلوم الشرعية ، وأنه يثاب الإنسان على تعلمه وتعليمه ، وأن تعبير الرؤيا ، داخل في الفتوى ، لقوله للفتيين : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) وقال الملك : (أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) ، وقال الفتى ليوسف : (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ) الآيات ، فلا يجوز الإقدام على تعبير الرؤيا ، من غير علم. ومنها : أنه لا بأس أن يخبر الإنسان عما في نفسه ، من صفات الكمال من علم أو عمل ، إذا كان في ذلك مصلحة ، ولم يقصد به العبد الرياء ، وسلم من الكذب ، لقول يوسف : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ، وكذلك لا تذم الولاية ، إذا كان المتولي فيها يقوم بما يقدر عليه من حقوق الله ، وحقوق عباده ، وأنه لا بأس بطلبها ، إذا كان أعظم كفاءة من غيره. وإنّما الذي يذم ، إذا لم يكن فيه كفاية ، أو كان موجودا غيره مثله ، أو أعلى منه ، أو لم يرد بها إقامة أمر الله ، فبهذه الأمور ، ينهى عن طلبها ، والتعرض لها. ومنها : أن الله واسع الجود والكرم ، يجود على عبده ، بخير الدنيا والآخرة ، وأن خير الآخرة له سببان : الإيمان ، والتقوى. وأنه خير من ثواب الدنيا وملكها ، وأن العبد ينبغي له أن يدعو نفسه ، ويشوقها لثواب الله ، ولا يدعها تحزن ، إذا رأت زينة أهل الدنيا ولذاتها ، وهي غير قادرة عليها ، بل يسليها بثواب الله الأخروي ، وفضله العظيم لقوله تعالى : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٥٧). ومنها : أن جباية الأرزاق ـ إذا أريد بها التوسعة على الناس ، من غير ضرر يلحقهم ـ لا بأس بها ، لأن يوسف أمرهم بجباية الأرزاق والأطعمة ، في السنين المخصبات ، للاستعداد للسنين المجدبة ، وأن هذا غير مناقض للتوكل على الله ، بل يتوكل العبد على الله ، ويعمل الأسباب التي تنفعه ، في دينه ودنياه. ومنها : حسن تدبير يوسف ، لما تولى خزائن الأرض ، حتى كثرت عندهم الغلات جدا ، وحتى صار أهل الأقطار ، يقصدون مصر لطلب الميرة منها ، لعلمهم بوفورها فيها ، وحتى إنه كان لا يكيل لأحد إلا مقدار الحاجة الخاصة أو أقل ، لا يزيد كل قادم على كيل بعير وحمله. ومنها : مشروعية الضيافة ، وأنها من سنن المرسلين ، وإكرام الضيف لقول يوسف لإخوته : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ). ومنها : أن سوء الظن ـ مع وجود القرائن الدالة عليه ـ غير ممنوع ولا محرم. فإن يعقوب قال لأولاده ـ بعد ما امتنع من إرسال يوسف معهم حتى عالجوه أشد المعالجة ، ثمّ قال لهم بعد ما أتوه ، وزعموا أن الذئب أكله (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) ، قال لهم في الأخ الآخر : (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) ، ثمّ لما احتبسه يوسف عنده ، وجاء إخوته لأبيهم قال لهم : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) فهم في الأخيرة ـ وإن لم يكونوا مفرطين ـ فقد جرى منهم ، ما أوجب لأبيهم ، أن قال ما قال ، من غير إثم عليه ولا حرج. ومنها : أن استعمال الأسباب الدافعة للعين وغيرها من المكاره ، أو الرافعة لها بعد نزولها ، غير ممنوع ، بل جائز ، وإن كان لا يقع شيء إلا بقضاء وقدر. فإن الأسباب أيضا ، من القضاء والقدر لأمر يعقوب ، حيث قال لبنيه : (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ). ومنها : جواز استعمال المكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق ، وأن العلم بالطرق الخفية الموصلة ، إلى مقاصدها ، مما يحمد عليه العبد ، وإنّما الممنوع ، التحيل على إسقاط واجب ، أو فعل محرم. ومنها : أنه ينبغي لمن أراد أن يوهم غيره ، بأمر لا يحب أن يطلع عليه ، أن يستعمل المعاريض القولية والفعلية ، المانعة من الكذب ، كما فعل يوسف ، حيث ألقى الصّواع في رحل أخيه ، ثمّ استخرجها منه ، موهما أنه سارق ، وليس فيه إلا القرينة الموهمة لإخوته ، وقال بعد ذلك : (مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) ولم يقل «من سرق متاعنا» وكذلك لم يقل «إنا وجدنا متاعنا عنده» بل أتى بكلام عام ، يصلح له ولغيره ، وليس في ذلك