بشرعه. ومن المعلوم أن قدح الجاهل بلا علم ، لا عبرة به ، فإن القدح في الشيء فرع عن العلم به ، وما يشتمل عليه ، مما يوجب المدح والقدح.
[١٠٢] ولهذا ذكر تعالى حكمته في ذلك فقال : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) وهو جبريل الرسول ، المقدس المنزه عن كل عيب وخيانة وآفة. (مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) أي : نزوله من عند الله بالحق ، وهو مشتمل على الحق ، في أخباره ، وأوامره ، ونواهيه ، فلا سبيل لأحد أن يقدح فيه قدحا صحيحا ، لأنه إذا علم أنه الحق ، علم أن ما عارضه وناقضه باطل. (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) عند نزول آياته وتواردها عليهم ، وقتا بعد وقت. فلا يزال الحق يصل إلى قلوبهم شيئا فشيئا ، حتى يكون إيمانهم أثبت من الجبال الرواسي ، وأيضا ، فإنهم يعلمون أنه الحق. وإذا شرع حكما من الأحكام ، ثم نسخه ، علموا أنه أبدله ، بما هو مثله ، أو خير منه لهم ، وأن نسخه ، هو المناسب للحكمة الربانية ، والمناسبة العقلية. (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) أي : يهديهم إلى حقائق الأشياء ، ويبين لهم الحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، ويبشرهم أن لهم أجرا حسنا ، ماكثين فيه أبدا. وأيضا ، فإنه كلما نزل شيئا فشيئا ، كان أعظم هداية وبشارة لهم ، مما لو أتاهم جملة واحدة ، وتفرق الفكر فيه ، بل ينزل الله حكما وبشارة أكثر ، فإذا فهموه وعقلوه ، وعرفوا المراد منه ، وترووا منه ، أنزل نظيره وهكذا. ولذلك بلغ الصحابة رضي الله عنهم به مبلغا عظيما ، وتغيرت أخلاقهم وطبائعهم ، وانتقلوا إلى أخلاق ، وعوائد ، وأعمال ، فاقوا بها الأولين والآخرين. وكان أعلى وأولى لمن بعدهم ، أن يتربوا بعلومه ، ويتخلقوا بأخلاقه ، ويستضيئوا بنوره في ظلمات الغي والجهالات ، ويجعلوه إمامهم في جميع الحالات ، فبذلك ، تستقيم أمورهم الدينية والدنيوية.
[١٠٣] يخبر تعالى عن قول المشركين المكذبين لرسوله (أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ) هذا الكتاب ، الذي جاء به (بَشَرٌ). وذلك البشر ، الذي يشيرون إليه أعجمي اللسان (وَهذا) القرآن (لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) ، هل هذا القول ممكن؟ أو له حظ من الاحتمال؟ ولكن الكاذب يكذب ، ولا يفكر فيما يؤول إليه كذبه ، فيكون في قوله من التناقض والفساد ، ما يوجب رده ، بمجرد تصوره.
[١٠٤] (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) الدالة دلالة صريحة على الحق المبين ، فيردونها ولا يقبلونها. (لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) حيث جاءهم الهدى ، فردوه ، فعوقبوا بحرمانه ، وخذلان الله لهم. (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ).
[١٠٥] (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ) أي : إنما يصدر افتراء الكذب ، من (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) كالمعاندين لرسوله ، من بعد ما جاءتهم البينات. (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي : الكذب منحصر فيهم ، وعليهم أولى بأن يطلق من غيرهم. وأما محمد صلىاللهعليهوسلم المؤمن بآيات الله ، الخاضع لربه ، فمحال أن يكذب على الله ، ويتقول عليه ما لم يقل. فأعداؤه رموه بالكذب ، الذي هو وصفهم فأظهر الله خزيهم ، وبين فضائحهم ، فله تعالى الحمد.
[١٠٦] يخبر تعالى عن شناعة حال (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) فعمي بعد ما أبصر ، ورجع إلى الضلال بعد ما اهتدى ، وشرح صدره بالكفر ، راضيا به ، مطمئنا ، أن لهم الغضب الشديد ، من الرب الرحيم ، الذي إذا غضب ، لم يقم لغضبه شيء ، وغضب عليهم كل شيء. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي : في غاية الشدة ، مع أنه دائم أبدا.
[١٠٧ ـ ١٠٨] و (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) حيث ارتدوا على أدبارهم ، طمعا في شيء من حطام الدنيا ، ورغبة فيه ، وزهدا في خير الآخرة. فلما اختاروا الكفر على الإيمان ، منعهم الله الهداية ، فلم يهدهم ، لأن الكفر وصفهم. فطبع على قلوبهم ، فلا يدخلها خير ، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم ، فلا ينفذ منها ما ينفعهم ، ويصل إلى قلوبهم. فشملتهم الغفلة ، وأحاط بهم الخذلان ، وحرموا رحمة الله ، التي وسعت كل شيء.